ملك أبو العمرين … حلم الزفاف الذي لم يكتمل

ملك أبو العمرين … حلم الزفاف الذي لم يكتمل

غزة- نغم كراجة:

“ما توقّعت أن يُزفّ أحمد عريسًا من دوني…”

بهذه العبارة استهلّت ملك أبو العمرين (21 عامًا)، حديثها وهي تمسح دمعة علقت في طرف عينها، قبل أن تضيف بصوت متحشرج: “ألستُ صغيرة على أن أكون أرملة؟ أن أعيش كل هذا الحزن والفَقد بعد أشهر طويلة من الخوف والنزوح؟

عاشت ملك ويلات التشرّد منذ بدء الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة يوم 7 أكتوبر 2023م، ورفضت النزوح إلى جنوب القطاع حين أجبر الاحتلال سكّان غزة على ذلك، لكن أقسى تجاربها على الإطلاق هو استشهاد خطيبها الذي كانت تتهيأ ليوم زفافهم، وأُجبرت على تبديل ثوب الفرح الأبيض، بلبس الحِداد.

تتذكّر ملك صباح 24 ديسمبر 2024م، حين شنّ الجيش الإسرائيلي هجومًا بريًا على منطقة النفق وسط مدينة غزة، تقول: “خرجنا تحت القصف، أنا وعائلتي المكوّنة من ثمانية أفراد، وقنابل الغاز كانت تملأ السماء كأنها سحابة موت… اختنقنا جميعًا، بقينا أسبوعًا نعاني ضيق التنفس، ولم نجد مستشفى تقبلنا، فالمشافي كانت لا تستقبل إلا الشهداء والمصابين بإصابات حرجة”.

انتقلت العائلة إلى أقاربهم في حيّ الدرج، ثم نزحوا مجددًا إلى مركز إيواء في مدرسةٍ بحيّ الشيخ رضوان غرب مدينة غزة، حيث ما تزال ملك تعيش حتى اليوم، رغم أن المدرسة تعرّضت للقصف بداية إبريل.

خلال الهدنة التي بدأت يوم 19 يناير 2025م، لم يتغير الحال كثيرًا، تحكي بحسرة: “راتب والدي ما زال مُجمّدًا في الحساب البنكي… السيولة معدومة، ولو سحبناه تُخصم عمولة تصل إلى 40%، فاضطررنا للاعتماد على المساعدات الإغاثية التي لا تسد الرمق”.

في مركز الإيواء، تقدّمت جارتهم لخطبتها لابن أختها أحمد غراب (26 عامًا)، الذي يسكن في دير البلح، تروي ملك: “تعرّفت عليّ خالته في المدرسة، ورشّحتني له عروسًا”.

تمت النظرة الشرعية بينهم يوم 7 مارس 2025م، وحددوا موعد الزفاف 8 إبريل، تقول ملك: “لم أرَ أحمد إلا ثلاث مرات بسبب بعد المسافات وغلاء المواصلات، كان يأتي كل جمعة، كأنها زيارة العمر”.

ليلة 7 إبريل 2025م، اتصل بها أحمد الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، تتابع: “قال لي غدًا سأستيقظ مبكّرًا، أرتدي بدلة العرس وأُريها لك، سأرسل لك صورة من الصالون الذي زينته للفرح، أغلقت المكالمة وعيناي تلمعان بالأمل، ما كنت أعلم أنني أغلق أبواب الحياة ذاتها”.

بعد ساعةٍ من المكالمة، استهدف منزل أحمد، واستشهد هو ووالده وشقيقتاه، وأصيب شقيقه إصابة بالغة، تتنهد وتكمل: “استيقظتُ السادسة صباحًا أنتظر مكالمته… اتصلت به مرارًا دون رد، حتى جاءت خالته تبكي: “أحمد استُشهد، صرختُ صرخة هزّت المدرسة كلها، وانهار كل من حولي على صوتي وأنا أصرخ: أحمد؟ لا، مستحيل”!

بعد دقائق، أخبرها أحد أقاربه أن أحمد مصابًا، تقول وهي تغمض عيناها: “عادت لي الروح، هرعت إلى مستشفى الأقصى برفقة والديّ، مشيت من غزة إلى دير البلح وأنا لا أشعر بالمسافة، كأنني معلّقة بين السماء والأرض”.

“وصلت إلى المستشفى، وسألت أقاربه عنه، أمسكوا بيدي، وأخذوني نحو ثلاجات الموتى… ظننت أنه حي، لكني رأيته جثة هامدة، كل أعضائه ممزقة بفعل القصف، سقطتُ أرضًا، بكيتُ حتى كدت أفقد بصري”، تروي ملك وهي تغالب دموعها، دفنت زوجها الذي لم تُزف إليه، وعادت إلى غزة الساعة 12 ظهرًا.

“أول ما دخلت المدرسة احتضنتُ ثوبي الأبيض المطرّز بالألوان التراثية… الصندوق الذهبي الذي وضع فيه مهري… الدموع غطّت ملابسي وأغراضي الجديدة، شعرتُ وكأن روحي قد نُزعت من صدري، أحقًا كان يفصلني عن زفافي يومٌ واحد فقط؟!” تتحدث وهي تضغط على قلبها بكفها.

لم تستسلم ملك للحزن، بل تمسّكت بدراستها الجامعية في تخصّص العلاج الطبيعي، والتي التحقت بها قبل اندلاع الحرب بشهر.

تُعقّب وهي تُحدّق في الأرض بعينين شاردتين: “لم أُكمل شهرًا واحدًا في الجامعة… ثم جاءت الحرب.. قرّرتُ استثمار الوقت، فالتحقت بالتعليم الإلكتروني، رغم صعوبته… كنتُ أقف على أرصفة الشوارع أبحث عن إشارة إنترنت، أقدّم امتحاناتي، أرفع ملفاتي… لم يكن سهلًا، ولا واضحًا لكن ما كان أمامي إلا أن أقاوم.”

ما تعرّضت له ملك يُشكّل انتهاكًا واضحًا لاتفاقية جنيف الرابعة، لا سيما المادة (3) التي تنص على حماية المدنيين، والمادة (24) التي تكفل حق الأطفال والشباب في التعليم، والمادة (49) التي تُحرّم التهجير القسري.

هكذا، طُويت صفحة الزفاف قبل أن تُفتح، وبقيت ملك تحمل ثوبها الأبيض وذكرياته، تقاوم الألم كما تقاوم الحرب، لم تختر أن تكون أرملة، لكنها اختارت أن تُكمل الطريق رغم كل ما كُسِر بداخلها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى