داخل الخيمة لكل امرأةٍ حكاية أم صلاح تروي مأساة النزوح: (حاصرنا الجيش وما قدرنا نعمل إشي)
داخل الخيمة لكل امرأةٍ حكاية
أم صلاح تروي مأساة النزوح: (حاصرنا الجيش وما قدرنا نعمل إشي)
دير البلح – هبة أبو عقلين:
تعيشُ أم صلاح مهاني (53 عامًا) مع ثلاثين فردًا من عائلتها داخل خيمةٍ قماشية صغيرةٍ مهترئةٍ بأحد مخيمات النازحين في مدينة دير البلح وسط قطاع غزة، تارةٌ تتحسّر على ابنتها التي ما زلت شمال القطاع، وأخرى تبكي أخت زوجِها التي توفّت داخل الخيمة قهرًا.
خيمةُ أم صلاح المنقسمة لنصفين (للذكور والإناث)، تعجّ بتفاصيل النزوح الموجعة، فكل فردٍ في هذه الخيمة المصنوعة من القماش قصة مؤلمة.
أم صلاح: حاصرنا الجيش وما قدرنا نعمل اشي ونزحنا ع الجنوب
تسردُ أم صلاح تفاصيلَ ما حدث، بعدما شنّ الاحتلالُ حربًا على قطاع غزة، لكن أسرة أم صلاح كانت ضمن مَن أصروا على البقاء.
تقول: “بداية الحرب نزحنا من بيتنا بمنطقةِ تل الهوا غرب مدينة غزة بسبب الأحزمة النارية على المنطقة، وإطلاقُ فوانيسِ الإضاءةِ الليلية، وأوامر الإخلاء المتكررة عن طريق الاتصالات، كنا نحو 60 فردًا داخل البناية التي استهدفها الاحتلال بصاروخٍ تحذيري، فهربنا دون وعي إلى أحد مراكز الإيواء ولم يكن معنا أي شيء من احتياجاتنا، على أمل أن تنتهي الحرب بسرعة، أنشأنا خيمة بسيطة داخل مدرسة في حي الصبرة وسط مدينة غزة، بعد أن هدم الاحتلال بيتنا وسوّاه بالأرض”.
بدلًا من بيتها الدافئ، أصبحت أم صلاح داخل خيمةٍ لا تقي برد شتاءٍ ولا حر صيف، بل إن رياحًا قوية يمكن أن تخلع الخيمة من أساسها وتبقى العائلة في مهب الريح.
تكمل: “منتصف نوفمبر/تشرين الثاني 2023م، حاصرنا الجيش داخل المدرسة وما قدرنا نعمل إشي ونزحنا ع الجنوب، زوج ابنتي كان ذاهبٌ لتفقد عائلته في مدرسة الدرج، وأخت زوجي سهير مريضة كان بعض أولادها وزوجها أيضًا خارج المدرسة، الوضع كان مرعبًا، وزوجة ابني تصرخ من شدة الألم، تبيّن أنها حالة ولادة رغم أنها في شهرها الثامن، تواصلنا مع الصليب الأحمر وخرجنا مرعوبين، فنحن نتنقّل ليلًا أمام الاحتلال (حاملين روحنا على كفّنا)”.
أم صلاح: مش عارفة شو أعمل لكنّتي اللي والدة ومحتاجة عناية والبرد شديد، مش عارفة كيف بدو يعيش المولود بوضع الحرب وقلة الرعاية
كانت زوجة ابنها رولا تصرخ من شدّة الألم، وصلت إلى عيادة الصحابة وسط مدينة غزة، ولم تتخيل أن تكون الولادة بهذه الصعوبة، بسبب القصف العنيف الذي طال المنطقة واستشهاد والدرولا قبل أسبوعٍ من ولادتها، وفي جوٍ من فقدان الخصوصية وتكدّس النازحين بالمكان، أنجبت رولا طفلها ماجد بتاريخ 13 نوفمبر/تشرين الثاني 2023م.
عادت أم صلاح ورولا إلى المدرسة، وكانت رولا تعاني آلام ما بعد الولادة، وآلام في العضلات والمفاصل، خيّط جرحها بأكثر من 20 غرزة، تعقّب أم صلاح: “مش عارفة شو أعمل لكنّتي اللي والدة ومحتاجة عناية والبرد شديد، مش عارفة كيف بدو يعيش المولود بوضع الحرب وقلة الرعاية”.
تكمل أم صلاح: “ماجد عمره الآن 10 شهور، يعاني من حبوبٍ غريبة في كل جسده، بسبب قلة النظافة وأدوات التنظيف، والوضع السيء الذي نعانيه داخل الخيمة”.
رولا مهاني: مشيت ع الجنوب وأنا بنزف
رولا مهاني (23 عامًا) هي زوجة ابن أم صلاح، أمٌ لطفلين أحدهما وُلد في الحرب، تروي ما حدث: “يوم 27 أكتوبر/تشرين الأول 2023م، استشهد أبي، رضوان مهاني، إثر غارة إسرائيلية قرب منزل أهلي في حي الشجاعية شرق غزة، كنت حاملًا بالشهر الثامن، حزنتُ على والدي وعايشتُ الرعب بسبب القصف المتواصل بالأحزمةِ النارية، وقصف منزلنا ترك أثرًا نفسيًا سيئًا عليّ، عانيتُ ضغوط نفسية في المدرسة المكتظة بالنازحين، فزاد الألم عليّ بشكل مفاجئ”.
وتعاني مراكز الإيواء من اكتظاظٍ شديد يحرم النساء من خصوصيتهن ويفقدهن القدرة على أخذ قسط من الراحة أو توفير الرعاية اللازمة لهن، خاصة بالنسبة للحوامل والمرضعات.
تتابع رولا: “جاءتني آلام الولادة بسبب هذه الظروف، وبعدما نسّق زوجي وإدارة المدرسة مع الصليب الأحمر، كان الجيش الإسرائيلي يحاصر المدرسة ولا نستطيع الخروج فجميع المستشفيات محاصرة وخارج الخدمة، فذهبنا إلى عيادة الصحابة. من شدّة الوجع كنت أصرخ ولم أستطع الوقوف على قدماي، وكانت الولادة صعبة لأني بالشهر الثامن وبحاجة لرعاية خاصة”.
كان القصف شديدًا أثناء الولادة ما أصابها بالهلع، ولم تحصل على الرعاية الطبية المناسبة، لكنها عادت للمدرسة التي ما زالت محاصرة من قبل جيش الاحتلال.
تكمل: “بعد يومين من ولادتي أمرنا الاحتلال بإخلاء المدرسة والتوجّه إلى جنوب قطاع غزة، كان الألم شديدًا في كل أنحاء جسدي، مشيت ع الجنوب وأنا بنزف، مسافة طويلة وأنا ببكي وبتألّم، لا أستطيع التحرّك، لكن هذه أوامر جيش الاحتلال، بصعوبة وصلنا مخيم النصيرات وسط القطاع عند أقارب زوجي، وبعد شهر ألقى الاحتلال منشورات إخلاء للمخيم واضطررنا للنزوح إلى دير البلح، وأنشأنا هنا خيمة من البطانيات (أغطية النوم) بعد أن حصلنا عليها بصعوبة”.
قمر مهاني: نسيت كل شي عن الحياة الطبيعية
قمر مهاني (32 عامًا) هي ابنة شقيقة أم صلاح، وتعيش معهم في الخيمة، تقول بصوتٍ مرتعش: “نسيتُ كل شي عن الحياة الطبيعية”، قمر هي أمٌ لخمسة أطفال هم زينة (10 سنوات)، فايزة (9 سنوات)، يقين (6 سنوات)، حبيبة (3 سنوات) وعبد الله عمره 10 شهور ومولود في الحرب.
ترتعش الشابة وهي تسرد تفاصيل افتقادها لعائلتها ونزوحها المتكرر برفقة زوجها أحمد مهاني (33 عامًا) وأطفالها.
منتصف أكتوبر/تشرين الأول 2023م، بلغ قمر خبر قصف بيت جدها واستشهاده مع جدّتها وأعمامها وعمّاتها، (20) شهيدًا دفعة واحدة بعدما سقط البيت على رؤوسهم في شارع النفق غرب مدينة غزة، عمّها منتصر كان خارج المنزل، عاد ليجد عائلته أشلاءً، كما فقدت الشابة الكثير من أفراد عائلتها في مجازر أخرى.
تكمل: “أثناء ولادتي عانيتُ بشدّة، فلم تتوفر مستلزمات طبية ولا أدوات تعقيم، نزفتُ كثيرًا، والقصف لم يتوقف طوال الليل أثناء ولادتي في مخيم النصيرات، انتقلت بعدها إلى مستشفى شهداء الأقصى، فلم أجد مكانًا، وضعت نفسي أنا وزوجي وأولادي في أحد ممرات المستشفى، عشنا هناك فترة نفترشُ الأرض بحثًا عن الأمان، زوجي كان يعمل جاهدًا لتأمين لقمةِ عيشِنا رغم انعدام الدخل”.
انتقلت الشابة بعدها إلى خيمة خالتها أم صلاح، فلا مأوى لها سواها، رغم صعوبة الأوضاع التي جعلت من رضيعها عبد الله يبكي طوال الوقت بسبب الحر.
رماح مهاني: ِشكلو فش أمل أرجع أشوف زوجي
تتدخل رماح مهاني (23 عامًا) ابنة أم صلاح، وهي متزوجة وما زال زوجها شمال قطاع غزة: “ذهب زوجي لتفقّد أهله النازحين في مدرسة الدرج وجلب الطعام، تمت محاصرة مدرستنا واضطررنا للنزوح إلى جنوب قطاع غزة، عانيت مشكلة انقطاع المستلزمات الصحية الخاصة بالنساء، وهو ما سببّ لي مشاكل صحية، لأول مرة في حياتي تصيبني حصاوي الكلى”.
تتواصل الشابّة يوميًا مع زوجها الذي استشهد والده في آخر نوفمبر/تشرين الثاني 2023م، بسبب قناصة الاحتلال قرب بيتهم في حي الشجاعية، فبعد انسحاب جيش الاحتلال من الحي، عاد أبيه إلى البيت وفُقدت أخباره مدّة أسبوع ثم بلغهم خبر استشهاده.
تكمل رماح: “وفي نهاية يونيو/حزيران 2024م، تم استهداف منزلنا وأصيب زوجي ووالدته، وهو الآن جريحٌ وبحاجتي، نفسي أرجع أشوف زوجي، يقتلني الشوق إليه”.
وبحزن تتمتم: “شكله فش أمل أرجع أشوف زوجي”.
ويتناقض ما تعرّضت له عائلة أم صلاح مع اتفاقية جنيف الرابعة، الخاصة بحماية المدنيين وقت الحرب، والتي حظرت التهجير القسري للمدنيين، كما تتناقض مع قرار مجلس الأمن الدولي رقم (1325)، والذي ينص على حماية خاصة للنساء والفتيات وقت النزاع.
ووسط كل هذه الآلام، ما زالت أم صلاح تضع يدها على خدها، وهي تتحسر على الحال الذي وصلوا إليه، ما بين حزنها المستمر على شقيقة زوجها سهير التي توفيت إثر إصابتها بجلطة نتيجة واقع النزوح الذي لم تتحمله، وما بين حياة الخيام الفاقدة للخصوصية والتي أرهقت كل أفراد عائلتها.