زوجة الصحفي الشهيد الجدي، دانيا زُفت بلا زغرودة وفقدت أيمن أثناء الولادة
زوجة الصحفي الشهيد الجدي
دانيا زُفت بلا زغرودة وفقدت أيمن أثناء الولادة
غزة _ خديجة مطر:
داخل قاعة الانتظار التي تعجّ بالتوتر الممزوج بالأمل والخوف، حيث يقطع صوتُ بكاءِ المواليد ضجيج الصواريخ، كانت دانيا الجدي (21 عامًا) تحتضن بيديها بطنها المنتفخ، وعيناها مثبتتان بباب غرفة الولادة، وما بين ألم المخاض وأمل احتضان مولودها المنتظر، جاءت الصدمة التي قلبت كل شيء!
دانيا، هي شابة من سكّان حي الشجاعية شرق مدينة غزة، زوجة الصحفي الشهيد أيمن الجدي، تقول وهي تحتضن رضيعها: “يوم 26 ديسمبر 2024م، انقلبت حياتي تمامًا، بعدما قصف الاحتلال الإسرائيلي سيارة بث كانت تقف أمام مستشفى العودة في النصيرات حيث كنت ألد، واستشهد زوجي وأنا بانتظار مولودي الأول”.
تمسح دانيا دموعها وهي تطبع قبلة على جبين رضيعها، ثم تضعه في السرير لتكمل: “أثناء حملي، كنا أنا وأيمن نتخيل ملامح طفلنا، نحلم أنه سيكبر، ونخمّن كيف ستتغير حياتنا بقدومه، اخترنا ملابسه بعناية، تحاورنا كثيرًا حول اسم مولودنا، الكثير من الأمنيات رسمناها معًا، كلها ذهبت أدراج الرياح”.
تعود دانيا بحديثها إلى البداية، حين تقدم أيمن لخطبتها عام 2023م، فمازحتها والدتها قائلة: “أيمن صحفي، والصحفي حامل روحه على كفه”، لتجيب دانيا أنها ستكون فخورة بأيمن وعمله، تمت مراسم الخطبة، وبدأت مرحلة تجهيز شقة الزوجية، ولكن كان للقدر رأي آخر!
تمسح دانيا دموعًا أغرقت عيناها وهي تروي: “كنت العروس المنتظرة في أكتوبر 2023م، بعدما جهّز أيمن شقتنا في مدينة غزة، وحددنا موعد الزفاف، اندلعت حرب 7 أكتوبر ليؤجل العرس إلى أجلٍ غير مسمى، حتى ملابسي التي جهّزتها ما زالت في الحقائب في منزل عائلتي”.
يوم 10 نوفمبر 2023م، ومع تصاعد وتيرة القصف الإسرائيلي، اضطرت عائلتا دانيا وأيمن للنزوح من مدينة غزة عبر طريق صلاح الدين سيرًا على الأقدام لأكثر من ثمان ساعات، دون أن يعلموا إلى أين تتجه خطاهم، أو حتى يأخذوا قسطًا من الراحة، مكثوا في مقر جمعية الهلال الأحمر في خانيونس.
تمسح دموعها وتكمل: “كنت أحلم بفستان الزفاف الأبيض كما أي فتاة، وأن تلتف حولي الصبايا نرقص سويًا ونحتفل، لكن تحت وطأة الحرب تزوجت أيمن يوم 21 مارس 2024م دون أي مراسم، فقط انتقلت من خيمة أهلي في رفح إلى خيمة زوجي المتواجدة أعلى الرصيف، كنت مع أيمن أشعر أنها قصر رغم بشاعة حياة الخيام”.
ووسط هذا الواقع القاسي، حملت دانيا بطفلها الأول، عانت خلال الحمل من كل ما عاشته النساء من نقص في التغذية والدواء والرعاية الصحية، بل إنها عاشت تجربة النزوح من رفح تحت نيران الاحتلال أربع مرات، تنقلت فيهم بين رفح وخانيونس ودير البلح وسط قطاع غزة.
كان أيمن كما تروي دانيا، صحافيًا شجاعًا محبًا لعمله، لم يتردد يومًا في نقل الرسالة الإعلامية، فهي بالنسبة له أمانة يؤديها على أكمل وجه، ويشعر بمسؤوليته تجاه مهنته السامية.
يوم الولادة والذي يوافق يوم استشهاد أيمن، كانت تعاني الشابة من آلام المخاض، سمعت صوت انفجار خارج المستشفى، وصراخ نسوة، عادت والدتها إلى قسم الولادة بوجهٍ عابس، ورماد أسود يملأ ملابسها، سألتها عن أيمن فأجابت الأم إنه بخير، تعقّب: “شعرت أن هناك شيء يخفونه، عادت عمتي (والدة أيمن) تنظر إليّ تارة وتبكي بصمت، تحاول رغم وجعها عدم البوح خوفًا من فقدان حياتي وطفلي، كررت سؤالي: “لماذا لا يرد أيمن على اتصالاتي؟
بينما كانت دانيا تطلق صرخاتها الممزوجة بصوت بكاء مولودها معلنًا قدومه إلى الحياة، كان آلاف المواطنين يصدحون بصوتهم مشيعين أيمن وزملاؤه الخمسة الذين استشهدوا معه في القصف الإسرائيلي على سيارة البث التي كانت تقف أمام المستشفى، تكمل: “ثم جاءت والدتي لتمهد لي الخبر بأن أيمن أصيب في القصف، بينما كانت عائلتي وعائلته قد شيعوه دون وداع فقد تفحم جثمانه”.
ويخالف ما تعرّض له أيمن ورفاقه نص قرار مجلس الأمن 1738 الذي يدين الاعتداء على الصحفيين ووسائل الإعلام في مناطق الصراع، ويعتبرهم مدنيين يجب حمايتهم، إلا أن الاحتلال قتل خلال حرب الإبادة 204 من الصحافيين والصحافيات، وفق تقديرات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني.
بعد الولادة بساعات، جاءت أخصائية نفسية بوجهٍ عابس ونظرات يملؤها الانكسار، لتخبر دانيا باستشهاد أيمن، تقول: “شعرت أن الزمن قد توقف، لم أكن قادرة على استيعاب ما ترويه، صدمت وتجمد الكلام في حلقي، بعدها منحوني إبرة مهدئ وذهبت في نومٍ عميق”.
هنا تنهدت دانيا بقوة، وصمتت طويلًا، وهي تنظر إلى وجه صغيرها وتبتسم بمرارة: “أسميناه أيمن، خلال فترة حملي تبدل الاسم ثلاث مرات، أيمن كانوا يلقبوه أبو عبد الله، وبعدها قرر تسمية الطفل بلال تيمنًا بصديق طفولته الشهيد بلال رجب، وبعد استشهاد أيمن أطلقت عليه نفس اسم والده، حبي لأيمن كان دافعي لتسمية ابننا بنفس اسمه”.
تضغط عيناها بقوة وهي تختم: “كان أيمن يسألني معقول يا دانيا أشوف ابني، كأنه كان يشعر إنه لن يراه”.