عندما صرخت غدير (رجليا ضاعوا مني)

غزة- نيللي المصري:

“حسيت رجليا ضاعوا مني”.

بهذه الكلمات وصفت الشابة غدير الرضيع (30 عامًا)، كابوس ليلة 26 مايو 2025م، عندما أدى قصف إسرائيلي إلى فقدان ساقها اليسرى للأبد، وتركيب بلاتين خارجي  في ساقها اليمنى.

بالدموع تروي غدير ما جرى:” عندما اشتدّ القصف الإسرائيلي على منطقتنا في بيت لاهيا شمال قطاع غزة، هربت من خيمتنا المقامة على أنقاض منزلي إلى منزل الجيران لأنه باطون، ظننت أنه أكثر أمنًا، لكن قصفًا طال البيت تسبب في استشهاد خمسة من أصحابه، ووقعنا أنا وأطفالي الثلاثة تحت الأنقاض، وهنا شعرت أن ساقي ليست موجودة”.

في التفاصيل، كانت غدير تسكن بلدة بيت لاهيا شمال قطاع غزة، وأُجبرت على النزوح إلى دير البلح وسط القطاع منذ بدايات الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة والتي اندلعت يوم 7 أكتوبر 2023م، وعادت مع إعلان الهدنة في يناير 2025م، لتقيم في خيمةٍ على ركام منزلها المدمر، حتى انهيار الهدنة واستئناف الاحتلال للحرب في مارس 2025م.

تتكئ غدير على سرير في غرفةٍ في أحد مراكز الإيواء غرب مدينة غزة، وتكمل: “في تلك الليلة، كنت أنام مع أطفالي الثلاثة في منزل جيراننا، فجأة استيقظت على صوت دويّ انفجارات ضخمة، تم قصف البناية التي أتواجد فيها، وجدت نفسي بين سحابات من الدخان والغبار وتحت الأنقاض، وأطفالي كذلك”.

تصمت برهة وهي تنظر بحزنٍ إلى ساقها المبتورة وتواصل: “عندما توقف القصف صرخت بأعلى صوتي ليتم إنقاذي، استطاع زوجي والجيران الوصول وبدأوا بإزالة الركام عني وعن أطفالي، صرخت وقلت له (رجليا ضاعوا مني)، فخلع أحدهم قميصه وربط ساقي لإيقاف النزيف، انتشلوا الشهداء الخمسة وأخرجوا أطفالي الثلاثة مصابين، وانتظرت طويلًا حتى وصلت سيارة إسعاف”.

خضعت غدير لأكثر من عملية جراحية لبتر ساقها وزرع البلاتين في الأخرى في المستشفى الإندونيسي في بيت لاهيا والذي كان محاصرًا، لم يكن سهلًا أن تتحمل فقدان جزء من جسدها وتُعالج في ظروف صعبة.

تنظر غدير إلى الغرفة المكتظة بأغراض عائلتها، وهي تكمل: “حين وصلت المستشفى كنت أصرخ (رجليا.. رجليا)، كانت رجلي شبه مفصولة عن جسدي لا يربطها سوى قطعة جلد، لم أستوعب فقدان جزء من جسدي، حتى أني خلال العملية كنت أدرك ما يحدث معي، ثم أكملت علاجي في مستشفى الشفاء لشهرين”.

في مستشفى الشفاء، كان يُطلب منها الصيام للدخول إلى العملية ثم يتم التأجيل فجأة بسبب ضغط أعداد المصابين نتيجة للمجازر الإسرائيلية اليومية، وبقيت على هذا الحال لأسبوع، حتى أجرت العملية، وأعقبها معاناتها من فقدان ساقها اليسرى وتركيب البلاتين في اليمنى، وأزمة انقطاع الأدوية، فهي بحاجة إلى مضادات حيوية ومستهلكات طبية وعلاجات أخرى غير متوفرة.

تتنهد وتكمل: “لدي تهتك بالعظام، خضعت للعديد من العمليات، وبسبب نقص الأدوية والمضادات الحيوية أصيبت ساقي اليمنى بالتهابات شديدة وهذا يسبب ألم كبير لي، حتى الغيارات الطبية غير متوفرة”.

في مركز الإيواء الذي كان مقرًا حكوميًا، تعيش غدير مع عائلتها كلها في غرفة واحدة، تفتقد للخصوصية، كما أنها مصابة بحاجة إلى تهوية وملابس تناسب فصل الصيف، ناهيك عن عدم وجود باب الغرفة، ما أجبرهم على وضع بطانية على باب الغرفة لفصلهم عن غرف باقي النازحين.

لم تكن الإصابة هي المعاناة الأولى لغدير خلال الحرب التي نزحت في بدايتها إلى منزل شقيقتها في منطقة بيت لاهيا، ولدى قصف الاحتلال الإسرائيلي لمنزلٍ مجاور، تعرض طفلها زياد (10 أعوام) لإصابة بالغة بالقرب من الكبد والكلى، وتم علاجه في المستشفى الإندونيسي فاضطروا بعدها للنزوح إلى أحد مراكز الإيواء في دير البلح حتى إعلان الهدنة.

ويتنافى ما تعرضت له عائلة غدير مع البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقية جنيف الرابعة، والذي نص في مادته (51) على أن يتمتع السكان المدنيون بحماية عامة ضد الأخطار الناجمة عن العمليات العسكرية، وحظر الهجمات العشوائية. 

تشتاق غدير لأطفالها الذين نزحوا مع والدهم إلى دير البلح وسط قطاع غزة، بينما تتواصل معهم هاتفيًا وعبر مواقع التواصل الاجتماعي، فقد اضطرت لتركهم مكرهة كي تحظى برعاية أمها.

تتنهد وهي تشير إلى السرير الوردي الذي ترقد عليه والذي حصلت عليه مؤخرًا من إحدى المؤسسات وهي تتمتم: “أجلس طوال النهار هنا وأحيانًا أخرج على كرسي متحرك لأتنفس قليلًا، أشتاق إلى أيام كنت أقوم فيها بكامل واجباتي تجاه عائلتي، فقدت ساقي وأصبحت عاجزة عن الحركة، حتى أنني أحتاج لمن يرافقني عند الاستحمام أو قضاء الحاجة”.

قدمت غدير أوراقها الطبية إلى منظمة الصحة العالمية، وما زالت بانتظار دورها على قوائم المسافرين ضمن 30 ألف مصاب ومصابة يحتاجون العلاج خارج قطاع غزة.

بملامح هادئة ووجه مبتسم يحمل أملًا تختم: “أتمنى أن أكمل علاجي وأتمكن من تركيب طرف صناعي يساعدني على العودة لممارسة حياتي ورعاية أسرتي، وألا أبقى حبيسة السرير والكرسي المتحرك”.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى