على عتبة الجوع …رصاصة قتلت فاطمة

خانيونس- دعاء برهوم:

“خلّوا بالكم من بعض”، بهذه الكلمات ودّعت فاطمة أبو نقيرة (35 عامًا) أطفالها وانطلقت في رحلة البحث عن طعامٍ يسد جوعهم، وبدلًا من رجوعها بكيس دقيق؛ عادت إليهم محمولة على الأكتاف شهيدة، تاركة خلفها ست قلوب يقتلها اليتم، وزوج من ذوي الإعاقة، لا يقوى على الحياة بعدها.

وائل أبو نقيرة (40 عامًا) هو زوج فاطمة التي استشهدت في أحد مراكز توزيع المساعدات الأمريكية التي يطلق عليها الفلسطينيون (مصائد الموت) والمعروف باسم (الطينة) جنوب مدينة خانيونس يوم 8 أغسطس 2025م، يقول: “موت فاطمة أشعل النار في قلبي للأبد”.

بالدموع يروي الرجل قصته مع فاطمة: “تزوجنا عام 2010م، كانت سندًا لي فهي تعرف حالتي الصحية، منذ ولادتي وأنا أجلس على كرسي متحرك، أسست معها عائلة كانت لهم الأب والأم، زرعت فيهم كل شيء جميل، حتى قبل استشهادها بأيام كانت تتلو معهم القرآن”.

يجلس وائل على باب غرفة الصف في أحد مراكز الإيواء غرب محافظة خانيونس جنوب قطاع غزة، يحاول عبثًا الاختباء من وجع فقدانه عمود البيت التي لم يبقّ منها سوى صورة التقطها مع طفلتها سوار (عام ونصف) قبل استشهادها بأيام، كلهم ما زالوا يعانون صدمة الفقد وفقدان السند.

منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة يوم 7 أكتوبر 2023م، بدأت فاطمة معركة جديدة مع الحياة، يوضح زوجها: “تشعل النار منذ الفجر لتصنع وجبة الإفطار، ثم تسرع إلى طابور التكية كي تحصل على وجبة الغداء، حياتها كلها سعي من أجل أبنائها، رغم انها تشتكي من آلام ظهرها بسبب حملها جالون المياه لأكثر من مرة يوميًا، تغيّرت حياتها عمّا قبل الحرب بعدما كان جلّ اهتمامها رعاية أبنائها ومتابعة دراستهم”.

حالة من الإرباك يعيشها وائل الذي كان يسكن حي الجنينة شرق مدينة رفح جنوب قطاع غزة، والذي نزح من بيته في مايو 2024م، حين أجبر الاحتلال الإسرائيلي سكان رفح على النزوح، وانتقل إلى مدرسة طارق بن زياد الحكومية غرب خانيونس، ليعيش مأساة النزوح والفقد معًا.

بصوتٍ واهنٍ حزين يكمل: “عندما اشتدّ علينا الجوع، كانت فاطمة تبحث عن دقيق تطعم أبناءنا ولم تجد، شهر كامل لم نر فيه الدقيق ولا نستطيع شراؤه، أحيانًا كان ينام أطفالي جياعًا، كانت فاطمة تنظر إليهم وهي تتمتم (يا ريت بقدر أوفر لكم الخبز وتناموا شبعانين)، وعندما أُعلن فتح مركز المساعدات الأمريكية أواخر مايو 2025م، ذهبت فاطمة دون تفكير أو تردد وعادت في اليوم الأول ببعض المواد التموينية”.

تنهمر الدموع من عيني وائل وهو يروي آخر لحظاته مع فاطمة: “استيقظت في السادسة صباحًا وقبّلت جبين أبنائها وهم نيام، حملت حقيبتها على ظهرها والتفتت لي وودعتني (كأن قلبها حاسس إنها لن تعود)، قلت لها (بلاش تروحي اليوم) لكنها استمرت في طريقها”.

بعد ساعتين تلقّى وائل اتصالًا يخبره أن فاطمة أصيبت بطلقٍ ناريٍ في رأسها، لم يستطع التحرك، يكمل بعصبية: “لم أستطع فعل شيء، صرخت على والدتي لتذهب إلى مستشفى ناصر، كان مع فاطمة طفلي سليمان الذي تصطحبه معها إلى أي مكان تذهب إليه، حتى على مراكز المساعدات”.

إلى جوار والده، يجلس سليمان (10 سنوات) وهو ينظر إلى صورة والدته ويقول: “كل يوم كنا نمشي طريقنا سيرًا على الأقدام ساعة كاملة حتى مراكز المساعدات، نتبادل الحديث عن الوضع والظروف الصعبة وحياتنا كيف كانت قبل الحرب وكيف أصبحت”.

انهمرت الدموع من عيني سليمان الذي لم يرَ في حياته شيئًا جميلًا سوى الحرب والمجاعة وفقدان أمه، يقول: “كانت أمي توصيني على أخواتي سيلا (3 سنوات) وسوار التي ولدت في أول يوم من نزوحنا، وإخوتي علي ويزن ومحمد، دائمًا تحدثني عما يزعجها، “كانت كل حياتي وسندي، راحت وضلينا لوحدنا”، نعاني مع الحياة”.

يكمل: “يوم 8 أغسطس 2025م، كنت بجوار والدتي نفترش الأرض والرصاص من فوق رؤوسنا مستمرًا لساعتين، رفعت والدتي رأسها لتشاهد هل فُتحت البوابة، لكن الرصاصة كانت أقرب إلى رأسها وسقطت بين يدي شهيدة، لا يوجد إسعاف، نقلوها بالتوكتوك حتى وصلنا مشرحة مستشفى ناصر”.

ويخالف ما تعرضت له فاطمة وعائلتها اتفاقية جنيف الرابعة الخاصة بحماية المدنيين وقت الحرب، خاصة المادة (3) التي تحظر الاعتداء على الحياة والسلامة البدنية وبخاصة القتل، كما يخالف المادة (23) من الاتفاقية التي نصت على السماح بحرية مرور إرساليات من الأغذية والملابس للمدنيين.

حاول وائل تهدئة طفله سليمان الذي أخذ يبكي والدته بحرقة، ويختم وائل: “نار مولعة في قلبي، مش قادر أتحمل، وداع فاطمة كان ناقصًا، أطفالي لم يتحسسوا وجهها ولم يقبلوها قبلة الوداع، لم يعرفوا أن والدتهم داخل الكيس الأبيض الملقى على الأرض، لقد تركت فراغًا في حياتنا وحملًا ثقيلًا”.

ويختم:” “بتنهيدة وحسرة ياريت توقف الحرب وألاقي حدا يساعدني بكرسى كهربائي لأمارس حياتي وأكون لأطفالي السند بعد والدتهم فاطمة”.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى