نور… متى أصحو من هذا الكابوس
نور… متى أصحو من هذا الكابوس
النصيرات- خديجة مطر:
صباح يومٍ شديد البرودة، وبينما كانت الشابة نور شريم (23 عامًا)، تجلس مع عائلتها بمنزلهم يستمعون لنشرة الأخبار علّها تحمل جديدًا يخبرهم بتوقّف الحرب، فوجئت بكلِ شيءٍ حولها يتحوّل إلى جحيم، وتعيش مأساة أفقدتها خمسة من عائلتها، قبل حتى أن تستوعب ما الذي يجري.
“لم أتوقع أن تكون حياتي جحيمًا وأنا ما زلت في مقتبل العمر أحلم بحياةٍ جميلة”، بهذه الكلمات تحدثت الشابة نور وهي تتحسس إصابة في قدمِها تسببت في بتر الإصبع، وتروي ما عانته خلال الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة التي اندلعت يوم 7 أكتوبر 2023م، كان لها نصيبها من آلام الفقد والنزوح.
كانت نور تعيش مع أسرتها في مدينة الزهراء جنوب مدينة غزة، وحين أجبر جيش الاحتلال سكّان شمال قطاع غزة على النزوح إلى وسطه وجنوبه، انتقلت مع عائلتها إلى بيتهم الثاني الذي كان قيد الإنشاء، في منطقة أرض المفتي شمال مدينة النصيرات وسط قطاع غزة، ظنّوا أنهم أصبحوا في أمان، لكن الواقع غير ما تمنّوه.
تقول نور: “صباح يوم 28 نوفمبر 2024م، كنت أجلس مع عائلتي، فجأة تقدّمت دبابات الاحتلال الإسرائيلي وسط إطلاق نار من طائرات الكوادر كابتر ، توقّفت أمام منزلنا وبدأت بإطلاق النار والقنابل صوب منزلنا، حوصرنا حتى المساء”.
تواصلت عائلة نور مع اللجنة الدولية للصليب الأحمر، ومستشفى العودة القريب من المنطقة، من أجل التنسيق لإنقاذهم وإخراجهم من المنطقة، كون المنطقة يصنفها الاحتلال بـ”الحمراء”، ولكن اعتذر الجميع منهم.
تكمل: “أُبلِغ والدي من قِبل وكالة الغوث بوجود تنسيق مع جيش الاحتلال لخروجنا الآمن من المنزل، كونه أحد موظفيها، امتثلنا للتعليمات بالخروج من الشارع المحدد سيرًا على الأقدام، فهذه فرصتنا الأخيرة للخروج من هذا الجحيم، لكن كنت أشعر أن الخروج تحت النيران قد يكون فخًا يسحبنا نحو المجهول”.
خرجت نور وعائلتها من أسفل درج منزلهم (السلالم)، بعدما مكثوا أكثر من 10 ساعات، حاملين الراية البيضاء، ليأمرهم جندي نزل من الدبابة بإشارة في يده أن يسلكوا الطريق المتفق عليه، فساروا نحوه يتقدمهم والدها طالبًا منهم الركض مسرعين.
تتنهد بعمقٍ ثم تنفض رأسها بشدّة وهي تروي: “بعد خطواتٍ قليلة، سُلطت عليها نيران كثيفة من طائرات الكواد كابتر والمسيرّات دون سابق إنذار، سقطوا أمامي واحدٌ تلو الآخر، فلم يعد بيننا أحد ليس على جسده دماء”.
انهمرت الدموع من عيني الشابة وشهقت ثم أكملت: “فقدت كل شيء، عائلتي كانت ثمانية أفراد، كنا أربعة فتيات وذكرين ووالدي ووالدتي، فقدت خمسة منهم في غمضة عين، شقيقاتي فرح (26 عامًا)، مرح (24 عامًا)، نبال (23 عامًا) هي توأمي أصلًا، وأخي محمد (18 عامًا)، وأمي (47 عامًا).
تهز رأسها بحزنٍ وتواصل:” أمام عيني كانوا يصرخوا من شدة الألم، رأيتهم وهم يلفظون أنفاسهم الأخيرة، أمي استشهدت أولًا، ثم فرح، وبعدها نبال ومرح وآخرهم محمد، لم ينجُ من هذه المجزرة إلا أنا وأبي وشقيقي المغترب”.
لكنها تستدرك: “حدث ما كنت أخشاه، فقدتهم، حتى أنا أثناء محاولتي النجاة أصبت برصاصتين من طائرة كواد كابتر، أحداهما في منتصف قدمي اليسرى، والثاني بإصبع قدمي ما أدى إلى بتره، شعرت بألمٍ شديد، واصلت الطريق زحفًا حتى آخر الشارع، حيث سحبني رجلٌ وأنقذني، نُقلت بعدها للمستشفى، لكن ألمي لن يتوقّف أبدًا”.
ويعدّ ما تعرضت له عائلة نور انتهاك لاتفاقية جنيف الرابعة الخاصة بحماية المدنيين وقت الحرب، والتي وصفت في مادتها (147)، أعمال القتل العمد والتعذيب أو المعاملة اللاإنسانية بإنها مخالفة جسيمة للاتفاقية.
بقيت جثامين عائلة نور ملقاة في الشارع لأكثر من 24 ساعة، تحوم حولهم الكلاب الضالة، لم يستطع أحد الوصول إليهم، بعدها حالفهم الحظ بأن تم إكرام الجثامين بدفنها.
ترسم الشابة على شفتيها ابتسامة حزنٍ وهي تشير إلى دبلة تزيّن إصبعها وتكمل: “حين تخرجت من الجامعة في ذات عام الحرب لم أتخيل أن تكون حياتي بكل هذا الألم، كنت أرسم لنفسي أحلامًا وطموحات، وأن أحصل على مكانة اجتماعية تفخر بها عائلتي، الآن حلمي أن أصحو من هذا الكابوس، حلمي أن تعود عائلتي، وتشاركني فرحة التخرج، وحتى مراسم زفافي التي حرمت منها”.