عذبوه بالكيماويات محمد الذي فقد عينه رأى الموت في عوفر
عذبوه بالكيماويات
محمد الذي فقد عينه رأى الموت في عوفر
غزة- نغم كراجة:
“أنا مش قادر أشوف، ولا أتحمّل الحر، حتى الشمس محروم منها”.
بهذه الكلمات تحدّث الأسير المحرر محمد أبو طويلة (35 عامًا)، الذي خرج من أقبية الموت في سجون الاحتلال الإسرائيلي، ليجد نفسه في سجنِ جسده المحروق وألمه المستمر، وذاكرته المثقلة بما عاشه من تعذيب.
يجلس محمد على طرف سريرٍ في غرفةٍ معتمة داخل منزله في مدينة غزة، يضع يده على عينه كأنه يحاول حجب العالم من حوله، أو ربما يحجب دموعًا لا يريد رؤيتها.
“آخر شي شفته قبل ما يغمي عليّ كان وجه الجندي وهو بيضحك، حطوا راسي في إناء فيه كلور ومية نار، كل مرّة يسألوني سؤال وما يعجبهم جوابي يغرقوني فيه، كنت بحس وجهي بيذوب، النار بتاكل جسمي وأنا حي، وما عندهم مشكلة يسكبوا المواد الكيماوية على ظهري ورجليا، وأي جزء من جسمي، حسيت لحمي بينسلخ عن عظمي”، يقول محمد وهو يرفع كمّ جاكيته ليكشف عن بقعٍ داكنة، آثار الحروق الكيماوية التي ما زالت تملأ جلده.
بدأت قصة محمد في أواخر مارس 2024م، حين كان نازحًا من حي المنصورة في الشجاعية شرق مدينة إلى منطقة الصناعة وسط المدينة، كان يحاول النجاة بأسرته من الموت، ولم يعلم أن الموت سيلاحقه في كل زاوية داخل الشقة التي لجأ إليها، بعدما رفض وأسرته النزوح من شمال قطاع غزة إلى جنوبه، عندما أجبر جيش الاحتلال سكّان الشمال على ذلك منذ بداية حرب الإبادة التي شنها على قطاع غزة منذ 7 أكتوبر 2023م.
في اليوم الثامن والعشرين من نزوحه، اجتاح جيش الاحتلال المنطقة تمهيدًا للهجوم على مستشفى الشفاء غرب مدينة غزة، كانت الرصاصات والقذائف تنهمر من كل صوب، أي حركة تعني الموت الفوري.
“لما دخلوا علينا، ما كان فيه وقت تفكر.. كانوا بيصرخوا، يضربوا، يرعبوا الأطفال والنساء، سحبونا من المكان، فصلونا، خلوا الرجال لحالهم وبلشوا يحققوا معنا واحد واحد”، يقول محمد، مشيرًا إلى أن دوره جاء سريعًا، حيث اقتيد إلى غرفةٍ منفصلة، وبدأ التعذيب على الفور.
“الضرب كان عنيف.. كأنهم بيحاولوا يكسروا كل ضلع بجسمي.. حسّيت إني بموت، وبعد فترة فقدت الوعي”، عندما استعاد وعيه، كان وحيدًا في غرفة مغلقة، والجنود قد تمركزوا أسفل العمارة، ليبدأ كابوسٌ جديد امتد لأيام بلا طعام أو شراب.
بعد يومين، عاد الجنود، لكن هذه المرة لم يكن التعذيب بالضرب فقط؛ “جابوا إناء مليان مواد كيماوية، كانوا كل مرة يحطوا راسي فيه.. كنت بحاول أقاوم بس جسمي ما كان قادر، كانوا بس يستمتعوا وأنا بتعذب”، يقول بصوت متحشرج.
ويتعارض ما تعرّض له محمد مع المادة (32) من اتفاقية جنيف الرابعة التي تحظر التعذيب والعقوبات الجسدية والمعاملة القاسية أو اللاإنسانية للأشخاص المحميين، وما تعرض له محمد ليس فقط انتهاك للقانون الدولي؛ بل جريمة حرب موثقة بآثارها الحية على جسده.
اقتيد محمد إلى سجن عوفر داخل الأراضي المحتلة، وهناك استمرت معاناته، كان فقدان الرؤية في عينه اليسرى إحدى أولى الكوارث الصحية التي واجهها، فقد كانت ملتهبة، محاطة بحروق متناثرة، والجلد حولها ذائب تمامًا، رغم ذلك لم يتلقَّ علاجًا حقيقيًا، فقط بعض المواد البسيطة التي أبقته على قيد الحياة.
“كل شيء كان مقنن، حتى الأكل.. وجباتنا مجرد حبات بقوليات غير مطبوخة، ما فيها طعم ولا فائدة، بس كانت كفاية عشان ما نموت”، يقول محمد، متذكرًا الجوع الذي عانى منه داخل السجن، وهو الجوع ذاته الذي كان يؤرقه على عائلته، وطفله عياش الذي كان في شهوره الأولى.
“كنت بحط المعلقة في فمي وأتخيل عيلتي.. كيف عايشين؟ هل قدروا يوفروا الحليب لعياش؟ هل كان عندهم ما يكفي من الطعام؟، كل يوم بموت ألف مرة.. كنت بدي أطمن على أهلي بس”، يكمل بنبرة اختنقت وسط سيل الأسئلة التي لم يجد لها إجابة طيلة 12 شهرًا داخل الأسر.
ويتعارض الحرمان من التواصل مع العائلة مع المادة (116) من اتفاقية جنيف الرابعة التي تكفل للأسير حق الاطمئنان على ذويه عبر الصليب الأحمر، لكن هذا الحق حرم منه محمد، كما يتعارض التجويع المتعمد مع نص المادة (89) من الاتفاقية ذاتها، التي تلزم بتوفير الغذاء الكافي للمعتقلين، وتحظر استخدام الحرمان من الطعام كوسيلة عقاب.
في منتصف فبراير 2025م، أُفرج عن محمد ضمن صفقة تبادل، لكنه خرج ليجد نفسه في صدمة جديدة، “كنت بفكر إني راح أرجع لعيلتي.. بس لما وصلت مستشفى الأوروبي، استقبلني أخوي، وظنيت أنه واحد من إخوتي الثلاثة استشهد”، يتوقف للحظة، يأخذ نفسًا عميقًا، ثم يكمل بصوت متهدج، “عرفت أن أبوي استشهد قبل نهاية الحرب بخمسة أيام، وما قدرت أودعه”.
عند وصوله المستشفى، شخّص الأطباء حالته بالمعقدة، وأخبروه أن علاجه يتطلب تدخلًا طبيًا دوليًا، لكنه حتى اللحظة لم يحصل على شيء سوى بعض المسكنات والمراهم البسيطة التي لا تكفي لتخفيف الألم الدائم.
“أنا مش قادر أطلع للشمس، جسمي ما بيستحمل الحرارة، عيني مش قادرة تشوف منيح.. حتى الحياة الطبيعية صارت حلم”، يقول محمد، بينما يضع يده على عينيه مجددًا، كأنه يريد أن يحجب الواقع عن نفسه ولو للحظة.
كان محمد يعمل ميكانيكي سيارات، يمتلك ورشة دمرها الاحتلال خلال الحرب، وأصبح الآن عاجزًا عن العمل، غير قادر على مواصلة حياته، ينتظر بلا أمل أن يأتي من ينقذه من سجنه الذي لا أبواب له، ولا حراس.