عائشة .. حكاية أم ولدت طفلتها فوق الركام
عائشة .. حكاية أم ولدت طفلتها فوق الركام
جباليا- هيا بشبش:
في شارع مدمّر المنازل بمدينة جباليا شمال قطاع غزة، وعصر ثالث أيام الهدنة في 21 يناير 2025م، كانت عائشة وزوجها هارون عسلية ينتظران سيارة الإسعاف القادمة من مدينة غزة، بعد توقّف الخدمات الصحية شمال القطاع، لنقل عائشة التي حان موعد ولادتها إلى المستشفى.
تشدّ عائشة الخربيشي (25 عامًا) ذراع زوجها هارون وهي تستعجله للوصول إلى ناصية الطريق، أملًا بوصولٍ أسرع نحو السيارة التي تأخّرت، لم تكن هذه هي الولادة الأولى للشابة؛ فهي أمٌ لثلاثةِ أطفال، لكن هذه المرّة مختلفة كليًا!
لم تتوقع عائشة أن تلد يومًا فوق ركام المنازل المدمّرة، حين اشتدّت عليها آلام المخاض، طلبت منها نسوة الاستلقاء فوق الركام، فالولادة حدثت بالفعل، عندها استوقف هارون ومن معه من رجالٍ هبّوا مؤازرين سيارة إسعاف كانت متجهة لمصابٍ آخر، فنقلهم معه تعاطفًا.
تُهدهِد عائشة رضيعتها تالا في السرير وهي تصف ما جرى: “حاولت كتم صرخاتي خجلًا من المارّة، لم أتوقّع أن ألد في الشارع، وألا أجد أمي كما ولاداتي السابقة، عندما شعرت بماءِ الجنين عرفت أنه قد خرج، أخبرت سيدة كانت بجواري، فشدّت يدي وقالت (انتي زي بناتي) وطلبَت من أخريات إحضار غطاءٍ من بقايا البيوت المقصوفة، غطتني وسحبت جسد الجنين ولفّته بقماشة، وبعدما نزل المسعف قصّ الحبل السرّي للجنين ونقلني إلى المستشفى ترافقني تلك السيدة”.
وصلت عائشة للمستشفى وأجرت الفحوص الطبية اللازمة، وصباح اليوم التالي خرجت دون أن تجد سيارة تقلّها إلى بيتها في جباليا بسبب ندرة المواصلات الناتجة عن حرب الإبادة ومنع إدخال الوقود.
نامت تالا، بينما أشارت عائشة إلى طفلتها غزل (عامان) وقالت: “أحاول الاعتناء بالاثنتين معًا، تالا مصابة بالتهابات شديدة حتى الآن، وغزل تعاني من سوء التغذية بسبب المجاعة التي مرّ بها شمال القطاع، فنحن لم ننزح إلى الجنوب”.
وكان جيش الاحتلال الإسرائيلي شنّ حرب إبادة على قطاع غزة منذ 7 أكتوبر 2023م، أجبر خلالها سكّان شمال القطاع على النزوح إلى جنوبه، في مخالفة لاتفاقية جنيف الرابعة الخاصة بحماية المدنيين وقت الحرب، والتي تحظر التهجير القسري للمدنيين، عائشة وعائلتها أصروا على البقاء في بيوتهم وعدم النزوح، تعقّب: “رفضنا النزوح، كنا مصابين نتيجة قصف بيتنا يوم 11 أكتوبر 2023م، وأنقذونا من تحت الأنقاض”.
قطع حديثها صوت أنين والدة زوجها التي طلبت منها مسكّنًا للآلام يخفف جزءًا من ألم الإصابة، أشارت عائشة إلى قدم حماتها قائلة: “أصيبت في القصف ووضعوا لها بلاتين خارجي، لجأنا إلى مدرسة أبو حسين التابعة لوكالة الغوث في مخيم جباليا، اعتقدنا أن مدارس أونروا محمية دوليًا، لكن تعرّضنا للقصف ثلاث مرات، ثم أجبرنا على النزوح لمدينة غزة منطقة الجامعات”.
في يونيو 2024م، نزحت عائشة وأسرتها إلى مدرسةٍ حكوميةٍ بمدينة جباليا، ليكونوا قريبين من منزلهم المدمّر، وكان زوجها يحاول الوصول إلى بيتهم لجلب ما يمكن من ملابس وأدوات منزلية، رغم خطورة الأوضاع، فالكثيرين تعرضوا للقصف أثناء تفقّد منازلهم، تقول عائشة.
لكن للمرة الخامسة كانوا هدفًا للقصف الإسرائيلي، هذه المرّة داخل المدرسة، أنقذهم المسعفون مجددًا من تحت الأنقاض حيث كانت عائشة في الشهور الأولى لحملها، تعقّب: “أصيبت طفلتي هديل (7 أعوام) في بطنها، واحتاجت لعملية جراحية عاجلة، انتظرنا في مستشفى الخدمة العامة ستة أيام حتى تماثلت للشفاء كنا نحن أيضًا نضمّد جراحنا”.
عانت عائشة وعائلتها من المجاعة القاتلة التي ضربت شمال قطاع غزة نتيجة منع الاحتلال إدخال المواد الغذائية، تقول: “كنا نأكل وجبة واحدة في اليوم وأحيانًا كل يومين، معظم طعامنا من النباتات البرية ودون خبز، أصبنا جميعًا بفقر الدم والهزال والضعف”.
تعرضت عائشة لفقر الدم وهي حامل وبحاجّة ماسّة إلى التغذية الجيدة، وهو ما أثّر سلبًا على صحتها، وجعلها في حالةِ ضعفٍ وهزال غير قادرة على تحمّل الحمل.
تواصل: “بعد التوصل للهدنة عدت لما تبقّى من بيتي المدمّر وأنا في الشهر التاسع من الحمل، بسبب المجاعة كنت أعاني من سوء التغذية وهذا أثّر على صحة الجنين وصحتي، حاولت مع زوجي ترميم غرفة واحدة لنعيش فيها”.
ويخالف ما تعرّضت له عائشة بنود اتفاقية جنيف الرابعة الخاصة بحماية المدنيين وقت الحرب، والتي نصت في مادتها (16) على حماية خاصة للجرحى والمرضى والحوامل والعجزة.
ثالث أيام الهدنة حين شعرت بآلام المخاض، اتجهت عائشة بأطفالها الثلاثة إلى جارتها، وسارت مع زوجها نحو المستشفى، تتنهّد قائلة: “سرت وأنا أجرّ قدماي من شدّة الألم والضعف، حاولنا الاتصال بالإسعاف، وبعد جهدٍ بسبب سوء شبكة الاتصالات نجح الاتصال، ولم ينجح الإسعاف في الوصول”.
خرجت عائشة بعد ولادتها ولم تجد سيارة إسعاف تنقلها من مدينة غزة إلى جباليا، فاضطرت هي وزوجها للوصول إلى بيتها سيرًا على الأقدام متكئة عليه وبين يديه المولودة تالا، تختم: “ما زلت أعاني من آلامٍ في الظهر نتيجة ولادتي على الركام، طفلتي أيضًا تعاني من التهابات نتيجة الولادة في جوّ ملوّث بآثار القصف، ومن سوء التغذية الذي عانيته خلال حملي بها”.