الإبادة مرّت على شروق وحوّلت حياتها للأبد
الإبادة مرّت على شروق وحوّلت حياتها للأبد
غزة- نغم كراجة :
داخل غرفةٍ باردةٍ في إحدى مدارس شرق مدينة غزة، تجلس الشابة شروق الجرجاوي (23 عامًا) على كرسيها المتحرك، تحتضن طفلها محسن بين ذراعيها العاجزتين عن منحه الدفء، تنظر إلى سقف الفصل المتشقق، تسترجع كل ما حدث معها، منذ كانت تعيش حياةً مستقرّة، حتى أضحت أرملة وعلى كرسي متحرّك!
تستذكر الشابة أيام النزوح الأولى، منذ شنّ الاحتلال الإسرائيلي حربًا على قطاع غزة يوم 7 أكتوبر 2023م، واضطرت للنزوح قسرًا من بيتها القريب من الشريط الحدودي في حي الشجاعية شرق مدينة غزة، حتى وجدت لها زاويةً داخل مجمع الشفاء الطبي.
“في الأيامِ الأولى داخل الشفاء، لم يكن لدينا شيء، لا ملابس، لا بطانيات، ولا حتى حفنة دقيق”، تقول شروق بصوتٍ خافتٍ متقطّع، وعيناها غارقتان في التعب، تذكّرَت كيف كان زوجها محمود الذي بالكاد يجد عملًا، يعجز أحيانًا عن شراءِ حليبٍ لطفلِهما، “لكنّي صبرت، أملًا في أن ينتهي هذا الكابوس، إلى أن حدث الاجتياح الأول لمجمع الشفاء في ديسمبر 2023م”، تضيف بحزن.
“حُوصرت مع زوجي وآلاف العائلات داخله، بقينا أيامًا بلا طعام، بلا ماء، والخوف يمزق أنفاسنا، كنت أحتضن طفلي بأيدٍ مرتجفة، أحاول أن أُشعره بالأماكن الذي لا وجود له”، تكمل وهي تحتضن طفلها وتحاول حبس دموعها.
بعد انسحاب قوات الاحتلال، حاول محمود تأمين مأوى، فاستأجر حاصلًا (مخزن) متضررًا في حي النصر غرب مدينة غزة أواخر فبراير 2024م، خرجت شروق برفقته لشراء بعض الحاجيات، تاركة طفلها عند والدة زوجها، “كنت أفكّر في الأشياء التي سنشتريها، فجأة بدأ إطلاق النار والقذائف من كل اتجاه، لم نكن نعلم أن جيش الاحتلال اجتاح المنطقة”، تضيف.
ارتجف صوتها وهي تتابع: “قبل أن أستوعب، اخترقت قذيفة جسد محمود وحوّلته إلى أشلاء تناثرت في الشارع”.
شهقت شروق وهي تكمل: “كنت بجانبه، سمعت القذيفة قبل أن تصيبه بثوانٍ، تركته هناك، جسده الممزق، دمه الذي يغطي الطريق، ركضت من المكان وأنا أفكر، هل التهمت الكلاب الضالة ما تبقّى منه”، بعد استشهاد محمود أخبرها والده بنزوحهم إلى حي الدرج وسط مدينة غزة.
انسحب جيش الاحتلال بعد أسبوعين، فعادت ولم تجد جثمان زوجها، أخبروها أن شبانًا نقلوه إلى مجمع الشفاء، ومنعوها من رؤيته، بسبب مشهد جسده، طلبت استلام مقتنياته، لكن وجدوا المال الذي كان يحمله محترقًا.
“مشهد زوجي وهو على الأرض ما بيغيب عن بالي، وكل ما أتذكر الموقف ما بقدر أوقف بكا”، تقول شروق وتجهش بالبكاء.
نزحت شروق مجددًا إلى منزل عائلتها في شارع الجلاء غرب مدينة غزة، وكانت على موعدٍ مع انقلابٍ جديدٍ في حياتِها!
تقول: “قصف الاحتلال البيت في أغسطس 2024م، وكأن الأرض ابتلعتنا، الغبار والدخان غطيّا المكان، لم أستطع التنفس، ولم أعثر على طفلي محسن إلا بعدما وجدته بجانبي تحت لوحٍ خشبي منهار، حماتي (والدة الزوج) كانت تلفظ أنفاسها الأخيرة، وقدماها مبتورتان”.
تغمض عيناها وهي تسترجع ما جرى: “حين كنت تحت الأنقاض لم أدرك حجم إصابتي، رأيت قدماي تنزفان وليست مبتورتان، وحين وصلت المستشفى فقدت قدمي اليسرى تمامًا، واستدعت حالتي تركيب بلاتين لتثبيت ما تبقّى من رجلي، أما اليمنى فقد بدأ التآكل يلتهمها، والحشرات تخرج منها، حتى قرر الأطباء بترها، وتحويلي للعناية المركزة خشية حدوث نزيف”.
داخل العناية المركزة، حملت رضيعها لترضعه لآخر مرة، لا تعلم متى ستراه مجددًا، “كنت أعلم أنها آخر رضعة، جسدي كان ضعيفًا، ولم أعد أمتلك القوة حتى لاحتضانه”، بعد أربعين يومًا في المستشفى، خرجت شروق بلا قدمين، وجسد أنهكه الألم، وأمومة عاجزة أمام طفلٍ يتيم الأب.
وتصف اتفاقية جنيف الرابعة الخاصة بحماية المدنيين وقت الحرب، في مادتها (147) إلحاق الأذى الجسدي الجسيم بجريمة حرب، وتحظر مادتها (33) العقوبات الجماعية واستهداف المدنيين، كما تحظر المادة (18) استهداف المستشفيات، ومع ذلك تم اجتياح الشفاء مدة ثلاثة أسابيع في المرة الأولى، حوصر خلالها النازحون بلا طعام ولا ماء.
اليوم، تعيش شروق في غرفة باردة، تعاني في كل مرة تحتاج إلى التحرك بسبب الطرق المدمرة، وكرسيها المتحرك الذي يتعطل كثيرًا، “حتى الوصول إلى العلاج معاناة.. الطرق مدمرة، لا أحد يساعدنا”، تقول شروق.
رغبتها الوحيدة أن تحصل على أطراف صناعية، تضيف: “ليس لأجل نفسي فقط، بل حتى أتمكن من احتضان محسن، أحمّمه، ألبسه.. أريد فقط أن أكون أمًا له، كما كنت قبل هذه الحرب”.
الوقت يمر، ولا إجابة لأسئلتها: “إلى متى سأبقى هكذا؟ إلى متى سأنتظر المساعدات التي لا تأتي؟ كيف سأعيش دون ساقين، دون زوج، دون حياة؟”.