(نهيل مهنا) تروي قصة البقاء في وجه الإبادة
غزة- هبة الشريف – “أصابتني رصاصةُ دبابةٍ بعدما أطلقت نحوي ثلاثُ طلقاتٍ اقتحمت نوافذ المنزل، كان لي نصيبُ الأسد فيها، أصبت في فمي مع جرحٍ عميق بالشّفة العلوية وتكسّرت أسناني، نزفت كثيرًا وظن الجميع أنهم سيفقدوني، ولكني نجوت”!
بهذه الكلمات تحدثت الكاتبة الأربعينية نهيل مهنا، واصفةً تجربةَ إصابتِها أثناءَ وجودِها في بيتها بمدينة غزة، فهي اختارت البقاء في المدينة التي أجبر الاحتلال الإسرائيلي مئات الآلاف من سكّانها على النزوح إلى جنوب قطاع غزة منتصف أكتوبر 2023، بعد أسبوعٍ واحدٍ من شن حربه على قطاع غزة.
تقول مهنا: “بعد محاولاتٍ تمكّنت أنا ومن معي من إسعاف نفسي بشكلٍ بسيط لإيقاف النزيف، بالكاد كنت أحرّك فكّي وتصعبتُ في شربِ المياه وتناول بعض الطعام الذي لا يتطلب مضغًا، مكثت مدّة طويلة محاصرة دون إسعاف، فقط أوقفت النزيف بخبرة بسيطة وبمساعدةِ مَن حولي”.
ويتنافى ما تعرضت له نهيل مع نص المادة (3) من اتفاقية جنيف الرابعة الخاصة بحماية المدنيين وقت الحرب والتي نصت على الاعتناء بالجرحى، وحظرت الاعتداء على الحياة والسلامة البدنية للأشخاص المحميين بموجب الاتفاقية.
حفظت نهيل شوارع غزة كاسمها، لكنها اليوم أشبه بمقبرةِ لا حياة فيها، إلا صوت أزيز الطائرات والانفجارات، كأنه زلزال يومي، قبل السابع من أكتوبر، كانت تقضي نصف وقتها في العمل مدرّبة دراما وكاتبة سيناريو مع العديد من المؤسسات، لكنها اليوم تمشي في شوارع غزة المهشّمة، لا ترى فيها سوى السيارات المقلوبة.
تعقّب:” لماذا لا تأتي هوليود هنا، لو أرادت تصوير فيلم لتكبّدت أموالًا طائرة لبناء ديكورٍ مماثل، لديّ طفلة واحدة هي كل حياتي، أسكن معها منطقة أبراج الكرامة التي أصبحت الآن ركامًا”.
في الأسبوع الأول من الحرب، نزحت نهيل من بيتها وعادت إليه مجددًا في اليوم التالي، لكن باغتتهم طائرات الاحتلال بإلقاء مناشير تطالبهم بإخلاء المنطقة والتوجه للمناطق الجنوبية، نزح غالبية أقاربها لكن أصرّت على البقاء في غزة التي تعدّها قطعة من روحِها، فالاحتلال تعمّد استهداف كل شيء حتى المحال التجارية، ليجبر الناس على النزوح.
تكمل: “استهدف الاحتلال أكثر من منزلٍ احتمينا داخله من صواريخ الإبادة، آخر شيء كان محلًا تجاريًا لشقيقي يضم قبوٍ احتمينا فيه ولكن تم استهدافه أيضًا”.
نزحت نهيل وعائلتها إلى أكثر من مكان، وكل مكان يحطّون فيه رحالهم يقسّمونه نصفين بين الرجال والنساء مهما كان صغيرًا، كي يحصل كل منهم ولو على “غفوةٍ” بسيطة يستند عليها طوال ساعات الليل حيث يشتد القصف.
تقول: “لاحقتنا قذائف الدبابات والرصاص اخترق جدران كل مكان نزحنا إليه، وغالبًا تتساقط الشظايا حولنا، أغلب سويعات النهار نكون منبطحين أرضًا دون همس”.
هنا تبكي نهيل بينما تروي أصعب لحظات حياتها حين دخلت طائرة من طراز “كواد كابتر” شباك البيت وبدأت بتصوير من هم داخله، تعقّب: “شعرنا جميعًا أننا سنموت، انفجرتُ بالبكاء وتمنيت لو أصابتني غيبوبة، تلوتُ الشهادتين وأغمضت عيناي بقوة ووضعت رأسي على الوسادة وتأهبتُ للموت، وبعد ساعاتٍ لم أصدق أننا أحياء”.
اشتدّ القصف الجوي والمدفعي صباح اليوم التالي، وقررت العائلة اللجوء إلى بيتٍ واحدٍ علّه يكون أكثر أمانًا، الاستحمام مرة أسبوعيًا، ولحسن الحظ لم يكن لديهم أطفال، وإلا لتسبب صراخهم في تنبيه الاحتلال لوجود أناس، خاصة عندما قُصفت بناية مجاورة للبيت واستيقظوا جميعًا على صوته والرماد يحجب الرؤية تمامًا، بينما ركض كل فرد يطمئن على من يخصه وسط صراخٍ وعويل اكتشفوا بعده أنهم جميعًا أحياء.
للمرةٍ الثالثة كُتب لهم عمر جديد، ومع إصابة ألواح الطاقة الشمسية وخزانات المياه، أصبحوا بلا مياه ولا كهرباء، فضلًا عن التدمير الجزئي للبيت، مجرد أن انسحبت الدبابات هربوا جميعًا.
تكمل نهيل :”لا يعلم صوتُ قرقعاتِ البطنِ عند الجوع سوى أهل غزة، ولا تناول المعلبات لقرابة عام، والالتزام بطوابير دخول المرحاض وصفوف التكيات وجلب الماء سوانا، معاناة الحرب تضاعفت شتاءً فرحلة البحث عن نايلون كادت تكون شبهُ مستحيلة في وضع مثل الحرب”.
تختم :”أصاب الجميع المرض، فلا مفر منه، فالقمامة في الشوارع وقرصات البعوض مهلِكة والبلدية لا تعمل والبيئة مهيأة لكافة الأوبئة، تفاصيل ما عشناه لا يمكن نسيانه ولن يُمحى من الذاكرة أبدًا”.