الخوف يحاصر شوق: “رجعنا لحياة الخيام”

الخوف يحاصر شوق: “رجعنا لحياة الخيام”

غزة – نغم كراجة:

“ما صدقت إني ارتحت من حياة الخيام بعد سنة كاملة من الذل… رجعتلها تاني، وكأن التعب ما بده يتركني”.

هكذا تمتمت الشابة شوق نعيم، وهي تحتضن رضيعتها الهزيلة داخل خيمةٍ ممزقة في أرضٍ فارغة حُوِلت إلى مخيم للنازحين وسط مدينة غزة، لا كهرباء، لا ماء، ولا أدنى مقومات الحياة، سوى قلب أم لا يزال ينبض خوفًا من الانكسارات.

شوق (19 عامًا)، كانت تسكن مدينة بيت حانون شمال قطاع غزة، ظنّت مع اتفاق الهدنة يوم 19 يناير 2023م، أنها ارتاحت من حياة الخيام، وأن تجربة الولادة في هذه الظروف القاسية أصبحت ذكرى، لكنها عادت لآلام النزوح من جديد، مع تجدد الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة يوم 18 مارس 2025م.

من داخل خيمتها، تروي شوق بعينين غائرتين من قلة النوم تجربتها منذ بدء الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة يوم 7 أكتوبر 2023م:” يومها بدأت المدافع تزمجر، والرصاص ينهال كالمطر، كنت في المنطقة الشرقية لبيت حانون، حيث تقدمت الدبابات الإسرائيلية تحت غطاءٍ ناري كثيف، نزحنا أنا وزوجي أكرم وعائلتنا إلى مدرسة في جباليا، تحوّلت سريعًا إلى مأوى مكتظ بالنازحين، دون أن نمتلك شيئًا”.

بعد أقلّ من شهر، اجتاحت دبابات الاحتلال المخيم، “صُدمت عندما رأيت الدبابات تقترب من المدرسة، ألقوا منشورات تأمرنا بالرحيل، لم يكن أمامنا خيار، كانت طائرات الكواد كابتر تحوم فوق رؤوسنا، ومن يحاول الذهاب إلى الشمال يُقتل ويترك للكلاب”، تروي وهي تمسك رضيعتها (غرام) التي وُلدت لاحقًا في ظل ظروف الحرب.

حينها كانت شوق حاملًا في شهرها السادس، تضيف بصوتٍ منخفض: “مشيت على قدميّ من جباليا حتى مدينة رفح جنوب قطاع غزة، أكثر من ست ساعات من الألم والنزيف الداخلي والتوسل لزوجي بأن يجد وسيلة نقل، رأيت جثث شهداء ملقاة على قارعة الطريق بعضها متحلل، ولم أستطع أن أشيح بنظري عنها”.

في رفح، بدأت معاناة جديدة، حين نزحت في خيمة تضم 28 فردًا، “لم أخلع حجابي لعام وثلاثة أشهر.. حتى في الحمام أنتظر طوابير طويلة، لم أتابع حملي عند أي طبيب، كلما ذهبت إلى المستشفى الحكومي قيل لي “انتظري موعد الولادة، الأولوية للمصابين، لا نملك ثمن الكشف في العيادات الخاصة”، تشرح وهي تحاول إخفاء انكسار صوتها.

عندما حان وقت الولادة، وُضعت شوق في غرفة واحدة مع عدة نساء، تقول: “المكان ملوث، الأدوات غير معقمة، لا شيء سوى آلامنا وصرخاتنا.. ولدت غرام وعدت بها إلى الخيمة دون حتى فحص ما بعد الولادة، ألبستها ملابس استعرتها من شقيقتي لعدم قدرتي على شراء شيء لها، كنت أختنق من البكاء كلما بكت طفلتي ليلًا، البعض من حولي يتذمر، وأنا عاجزة، مرهقة، مكتئبة، وأشعر أنني أنزف من الداخل”.

اضطر زوج شوق لاحقًا لافتتاح بسطة صغيرة لبيع البسكويت والعصائر، “نشتري الحفاضات بالقطعة، وصل سعر الباكيت إلى 300 شيكل (نحو 85 $)، لا أستطيع توفيره ولا إرضاع طفلتي جيدًا، فأنا لم أحصل على تغذية جيدة، والحليب الصناعي خارج قدرتنا، جسد طفلتي ضعيف ومناعتها منخفضة”.

مع الإعلان عن المرحلة الأولى من صفقة التبادل، عادت شوق وزوجها إلى بيت حانون، تحكي: “وجدت بيتي محروقًا شبه مدمر، سوى غرفة واحدة سوداء بفعل القصف.. أعدت ترتيبها، علّني أستعيد شيئًا من خصوصيتي المفقودة”.

لكن عودتهم لم تستمر طويلًا، فمع تجدّد العدوان، منتصف مارس الماضي اضطروا للنزوح من جديد نحو مدينة غزة “حملت طفلتي على كتفي، وزوجي حمل خيمته، كنا نبكي بصمت ونحن نغادر مجددًا، كأننا نُطرد من الحياة لا من الأرض فقط”، تقول شوق ودموعها تسبق كلماتها.

اليوم، تعيش شوق في خيمة مخترقة برصاصتين، في حي عشوائي، بلا ملابس كافية أو فرش نظيف، تكمل: “لا كهرباء، لا مياه، القوارض تمزق أطراف الخيمة، وجسدي تمزقه الهموم.. كل ما أريده اليوم هو أن أعيش يومًا واحدًا فقط لا أشعر فيه بالخوف أو الجوع أو الذل”.

ويخالف ما تعرضت له عائلة شوق اتفاقية جنيف الرابعة الخاصة بحماية المدنيين وقت الحرب، وخاصة المادة (49) التي تحظر النقل القسري الجماعي، وكذلك المادة (33) التي تمنع العقاب الجماعي بأي شكل، كما تنص الاتفاقية على ضرورة توفير الحماية والرعاية للنساء الحوامل وضمان حصول السكان على الغذاء والخدمات الصحية، وهو ما خُرق بوضوح في البنود المتعلقة بحماية المدنيين وتوفير الاحتياجات الأساسية في أوقات النزاع.

وعن أمنيتها تقول شوق دون تردد: “أريد فقط بيتًا صغيرًا، فيه جدار وباب أستطيع إغلاقه، أريد مكانًا أكشف فيه شعري جون خوف، وأسمع ضحكة طفلتي دون أن يطلب مني أحد إسكاتها، ما زلت أعيش بين النزوح والخوف وحياة لا تشبه الحياة”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى