ليس لنا سوانا…! غزة بقعة الضوء في عالم غير إنساني…

 

ليس لنا سوانا…!

غزة بقعة الضوء في عالم غير إنساني..

               هداية شمعون (*)

يقبع العالم على اتساعه في مكان مجهول لمن يعيش في غزة، تحت القصف والدمار والخراب منذ ما يقارب العامين، المفارقة أن العالم لا يعرف شيئا عن غزة ولا عن أهل غزة الذين باتوا هياكل عظمية بعد ما يقارب السبعمئة يوم متواصل من إبادة جماعية لم تتوقف إلا أيام معدودة في هدنة لم تشمل في ذلك الوقت أهالي رفح، يرى الجميع ويشاهد يتأثر ويبكي وقد يخرج الآلاف في الدول الغربية في مظاهرات او اعتصامات وقد تأخذ أشكال التضامن أشكال مختلفة وهذا التوصيف ليس تقليلا من قيمة هذه الجهود لكن ما الذي لا تعرفونه حقا عن غزة الآن…!

هموم تئن بها الجبال

الخوف والقلق والرعب من المجهول القريب هو عبء تئن له الجبال فكيف بالقلوب الحيرى والملتاعة في غزة، أن تستيقظ صباحا فهذا امر عجيب بعد ليلة دامية اهتزت بها الأرض بيتا أو خيمة أو مشاعا، أن يبدأ النهار بالصباح فهذا لا يحدث في غزة فالليل يتصل بالنهار بجسد متهالك وعيون فزعة منتفخة من قلة النوم أو قلة الطعام أو ترقب…!  ماذا بعد أصوات الانفجارات التي تقترب، الحيرة وعشرات الآلاف من الأسئلة التي تنتهك عقل كل غزة امرأة أو شابة أو رجل أو صغير أو كبير، هل نبقى هل نحن مجبرين على النزوح؟ نعم الآن الجميع مجبر على النزوح لكن النزوح يعد قتلا آخر، فمن جرب النزوح يصفه بالموت البطيء، إهانة وذل ومجهول لا يعرفه، تتمدد مئات الأسئلة مرة أخرى من أين سنحصل على الماء، من أين سنحصل على الطعام، لا أموال لدينا، لا سيولة في غزة، أين سنجد أرضا أو مكانا فارغا بينما مئات الآلاف ينحشرون في الجنوب دون أي رحمة، جحيم يتمثل في خيام النازحين، كيف سننتقل؟! وماذا سنأخذ معنا؟! وماذا سنترك؟! وكيف سنجد وسيلة للنقل ففي ظل شح السولار والبنزين وانعدامه وفي ظل توقف الآلاف من السيارات أصبحت الحيوانات التي تجر المركبات هي الأمل الوحيد في التنقل لكنها أيضا أصبحت شحيحة وباهظة الثمن، هل تتوقف الأسئلة لم تتوقف فهي أسئلة يومية بل لحظية قد تتكرر كل الوقت ولكنها بلا إجابات حاسمة لذا فهي أسئلة محيرة في وضع غير إنساني، أسئلة متفجرة في وجوه أصحابها لكنها حياة أهل غزة منذ عامين، توقفت حياة الغزيين في متاهة ممتلئة بالأشواك والمتفجرات فمن لم يقتل بالصواريخ أو القنابل أو طائرات الكوادكابتر الملعونة أو الشظايا المتناثرة أو بالرصاصات الموجهة أو العشوائية فإنه سيقتل في رحلة البحث عن مكان ليعيش، سيقتل بالمياه الملوثة، وبأكوام النفايات التي تحولت لمكرهة صحية تنشر الأمراض والأوبئة، وإن نجا الغزي من كل ذلك فإنه لن ينجو من التجويع فلا طعام صحي أو متوازن في غزة، لا فواكه ولا خضراوات ولا مقويات غذائية ولا لحوم هي معلبات بمواد حافظة تزيد فقر الفقراء وتلبك معداتهم وتجعلهم ضحية سوء التغذية، يتنازل الكبار عن حصتهم اليومية الوحيدة لأجل أطفالهم لكنها منازلة موجعة فقد تكون وجبة عدس تطهى على غير نضوج أمام ألواح خشبية هي أيضا تم شراؤها بمبالغ باهظة، لتتنشق النساء والرجال والأطفال دخان أسودا لساعات طويلة في وقت جهنمي وصيف قائظ، هي جهنم غزية لم ولن يشعر بها العالم في تلك البقعة المضيئة، لا وقت لرؤية الملامح كيف تغيرت، لا مرايا في غزة رحمة بمن يقطنوها كي لا يروا أنفسهم، لن يعرفوها كما لم نعرف وجوه أهلنا وأخوتنا وأصحابنا وصديقاتنا..!

الجحيم هو غزة الآن.!

تنتشر في الأجساد حرارة وحمى وحكة تليها التهابات وتقرحات في الأجساد، لا ماء نظيف ولا أدوية وحرارة الشمس لا تحمي أحدا،  لا منظفات ولا مطهرات ولا أبسط الأشياء الواجب توفرها في متناول الآلاف من النساء و الفتيات والعائلات، أطفال لا يعرفون طعم اللحوم ولا الدجاج وبعضهم لا يعرف إلا حليب أمه المجوعة، يبكون ليل نهار، والآباء يفرون من أمامهم لمصائد الموت لأجل حفنة طحين قد يصنعون رغيف خبز لأطفالهم، عشرات الشهداء يوميا، نسف مربعات سكنية مئات البيوت تقتل كل يوم يريدون غزة بلا بيوت فقط رمال وخيام، حياة الغزي هي مشقة في مشقة كل دقيقة فيها موت وكل دقيقة فيها جوع ومرض وتعب، حين وصفوا الجحيم قالوا أن تضع الناس في مكان ضيق معا..! هذه غزة الآن وفوق ذلك لا شيء لديهم…! معابر مغلقة بفعل الاحتلال الإسرائيلي، بحر مغلق وهل البحر أيضا يغلق أبوابه في وجه الحياة لغزة، نعم فالبوارج الحربية لا تتوقف عن القتل واختطاف الصيادين وتدمير ما تبقى من حسكات، حتى الأسماك يُحرمون منها وهم أهلها بفعل الإبادة الشاملة لكل جوانب الحياة في غزة…!

ليل غزة أسودا كنهاره أصوات الانفجارات لا تهدأ، التهديدات الإسرائيلية لا تتوقف ليل نهار الإجبار الناس على النزوح، يقع الأهل في حيرة الحياة تماما كما حيرة الموت، من يمكنه أن يعيش يوما واحدا في غزة من خارجه لن يفقد صوابه فحسب بل سيكفر بكل المواثيق والقوانين التي لم تصون الإنسان طفلا أو امرأة أو رجلا، كم من عشرات الآلاف مستورين بقطعة قماشية لا تحميهم من الأعين ولا من الطائرات؟ وكم من آلاف البيوت التي أصبحت قبورا لأصحابها فها هي الصحفية مروة مسلم يخرجونها جماجم وعظام هي وأخوتها بعد ما يقارب الخمس وأربعين يوما بعدما تركوا لمصيرهم فقد منع الاحتلال أي طواقم دفاع مدني لإنقاذهم بعد أن علقوا في بيتهم بعد قصفه، ليعيشوا ويموتوا معا، آلاف القصص التي لم تروى بعد، آلاف القصص التي عذبت أو تركت وحيدة أو نهشتها الكلاب الضالة وبمنع علني من الاحتلال الإسرائيلي، مقابر في كل أنحاء المدينة، جنازات يومية وفقدان يومي، وآلاف النساء ترملن وآلاف الأمهات قتلن وقدرهن ويزيد مريضات سرطان وأمراض مزمنة بلا ادوية ولا علاج، هذه غزة التي كانت تفيض بالحب والحياة أصبحت مدينة الموت ومدينة الأيتام، ولازالت مدينة تحتضن الناجين لكن هل يبقى الناجون ناجين بعد اليوم؟!

نخاف على أحبتنا أهلنا أصدقاءنا، نخاف على البيوت المجروحة والمقتولة، نخاف على القطط والكلاب والطيور الهاربة من حرب إبادة لم تترك نبض إلا نالت منه،  نخاف على مستقبل مجهول يكتنف المدينة الحزينة، وبحرها الحزين لم نعد نسمع صوت شواطئه الهادرة ولم نعد نلقي حزنا في جوفه فقد امتلأ حد الصمت المخيف، نخاف على حاضرنا المنكوب وماضينا النازف بذكريات كلها حروب وعدوانات ورغم ذلك كنا نركض ونفعل المستحيل لكي نبقى على أرضها، أرض غزة التي شربت دماء أبنائها وبناتها ولازالت، أرض غزة التي اختفت منها الورود وأشجار الزيتون واختفت معها مظاهر الحياة التي نعرفها نحن بناتها وأبنائها، غزة بقعة الضوء في عالم مظلم وموحش ولا إنساني، عالم قهرنا جميعا ولازال ينكأ جراحنا حتى أننا لم نعد نستيقظ من موتنا إلا لنمتص رحيقا يشبه الحياة ثم نسقط ونعود لنقف. تعود لتقف الأم لأجل أطفالها، والأب لأجل أحبته، والطيور لأجل صغارها، والأيتام لأجل بعضهم البعض، من لنا سوانا يا غزة الحبيبة، ومن لنا سوانا إن لم نشد أيدينا إحداها للأخرى لنقف رغم الجراح، نستحق الحياة ولا نستحق كل هذا القتل البشع، تستحقون الحب والكرامة والحياة فالله واهبها والله لا يقبل كل هذا القتل وسفك الدماء للأبرياء …!

الجميلات في غزة.!

نفس عميق، وزفير قوي وبكاء مكتوم وضحكات تخرج رغم المقتلة لأننا نحب الحياة، اجتمعنا في أسرة مركز التنمية والاعلام المجتمعي في لقاء مطول دون رسميات فالموت لم يترك لنا مساحة لممارسة الحياة باعتيادية متعارف عليها…!  الموت يخطف جهدنا ويحاول أن ينازعنا على شرنقة الحياة لكننا وهنا أقولها للطاقم النابض بالقوة والعطاء رغم المقتلة: الجميلات في غزة هن من يلهمنا في سعيهن للبقاء، للحياة، لقد أنهكت الحياة وجوههن، ولكنهن يعملن بكل ما لديهن من قوة لأجل جيل كامل من الشابات والشباب، كي لا يقعوا في بئر الاكتئاب والهزيمة والانهيار، يتحركن بخفة من بين الخيام ليصنعن أملا للشابات والشباب، تدريب في خيمة أو في مقر المركز رغم ما أصابه يُعدن إحياء الأمل والحياة، يكابرن على الخوف والوجع ويحملن في قلوبهن آلاف الأسئلة وآلاف الأوجاع منها ما يقال ومنها ما لا يقال، فقدن البيوت والأحبة، ولازلن يأملن أن تنجو غزة، ولازلنا نحفز الحياة والأمل لكي تنجو غزة، وينجون رغم المقتلة التي لم تترك بيتا ولا صحن دار ولا غني ولا فقر ولا طفل ولا شابة إلا طالته..! سحقتنا الحرب جميعا…!

إحدانا تحمل آلاف التساؤلات والحيرة هل ننزح مرة أخرى وأخرى؟ هل نبقى ونموت فيما تبقى في بيوتنا؟ هل ننجو حقا من المقتلة أم أنها مسألة وقت لكل من هم في غزة؟ وإحدانا تحمل خيمتها على قلبها وتنزح وهي تدرك أن النزوح موت غير رحيم ومجهول كأنك تساق للموت في مكان آخر؟ لكن الإبادة لا ترحم وتزداد بشاعة الضربات ليهتز القلب قبل الجسد وصرخات الأبرياء تعانق السماء السوداء الملبدة بالطائرات الحربية التي لا تغادرها! إحدانا لازالت تتلفع بالأمل وترى الوضوح أكثر من اللازم وتقرر البقاء مهما اقترب الموت منها.! لكنها إبادة وسحق وموت مجاني…!  لماذا نجبر على اختيار شكل الموت في غزة هو ليس اختيارا لكنها مفارقة قد تكون ثواني معدودة وتساؤل كبير: متى موعد قتلنا وبأي طريقة؟ وحدنا أم جماعات؟ قطعة واحدة أم اشلاء؟؟ لماذا تلتصق هذه الأسئلة في حناجرنا نتلفظ بعضها ولا نقوى على تلفظ أخرى وأخرى؟ لماذا علينا أن نختبر موت أحبتنا ولماذا نحن؟! هو ليس ذلك الخوف ولا ذلك القلق ولا ذلك الرعب الذي تسمعون عنه في تلك البقعة من العالم إنه فضاء غزة المحاصرة الذي بفعل المقتلة يطرح هذه الأسئلة المفخخة ويعيد فتح الجراح مرة تلو المرة دون بنج ولا تخدير، إنه كمن سحب خنجر على جسد عاري بينما النهار بشمسه الفاضحة لا يسمح برؤية أو ازدواجية الاعتقاد، فهل تدركون جراح غزة حقا وهل ترون دماؤنا حقا؟ لسنا لعبة أتاري ولسنا في فيلم عن الجوع والقتل إنهم يعيشونه مع كل نفس، حتى نفس الأوكسجين يضيق بهم فيختنقون ولكن لا يبكون، لا وقت لرفاهية البكاء نحن من نبكي…! ليت البكاء يعيد الأطفال للحياة، للضحك وللأمل، غزة تلك البقعة الصغيرة تضئ بدمها الطازج لا إنسانية العالم فلا إنسانية بعد ما يحدث في غزة…!

ورغم كل الموت والقتل والخراب لكننا نرى وجوه أحبتنا الجميلة وروحهم الأجمل تلك التي تستحق أن نناضل لأجلها، لأجل الإنسانية ولأجل الإنسان قبل كل شيء، إنها غزة التي نحب وهي بقعة الضوء الوحيدة في عالم معتم، سنرفع صوت الناجين عاليا وسنبقى أكثر قوة وأملا لأجلهم ولأجلهن ولأجل أجيال قاِِدمة شباب وشابات يستحقون الحياة بكرامة وحرية.

الجميلات نعتز بكن ونحبكن ونستمد قوتنا من كلماتكن: حنان، نورا، فدوى، نسرين، وردة، إيمان، خولة، هيا، هند، ياسمين، سندس واحلام وسماح والرائعون: المحمدين وسامي وسلطان.

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى