البحيصي … رسالة الصحافة والأمومة على خط النار
دير البلح – دعاء برهوم:
“أن تكوني صحافية في غزة، فهذا تحدٍ كبير، وأن تكوني أمًا أيضًا، هنا يكمن التحدي الأكبر”، بهذه الكلمات استهلت الصحافية الفلسطينية إسراء البحيصي حديثها عن تجربتها في تغطية الحرب على قطاع غزة.
بعد 7 أكتوبر 2023، شنّ الاحتلال الإسرائيلي حربًا على قطاع غزة، ومنذ لحظاتها الأولى، بدت أكثر شراسة من كل الاعتداءات السابقة، هنا كان على إسراء التي تعمل مراسلة لقناة العالم الفضائية منذ 20 عامًا أن تحسم أمرها سريعًا، هل تواصل مهمتها الصحافية لفضح جرائم الاحتلال، أم تؤدي دورها كأمٍ لأطفالها، وبسرعة قررت “أن أقوم بالاثنتين معًا”.
“هنا مهنة المتاعب أصبحت مهنة الموت”، تقول إسراء، فالعمل الصحافي في غزة خطير في ظل الحروب المتتالية التي لا ترحم بشرًا ولا حجرًا ولا شجرًا، حرب الإبادة هذه المرة أسست لمدرسةٍ جديدةٍ اسمها “صحافة غزة”.
تكمل: “الصعوبة هذه المرة أنني لا أستطيع توفير مكانٍ آمنٍ لصغاري الأربعة، فكل الأماكن أصبحت غير آمنة، أخرج إلى عملي يوميًا، أودعهم ويدي على قلبي، خشية أن أجدهم في أكفان أثناء التغطية، أرتجف خوفًا كلما وصلت سيارة إسعاف تحمل شهداء، أذهب فورًا لأتحقق من وجوههم، هل بينهم أطفالي، خاصة إن علمت بوجود قصف قرب البيت الذي نزحت إليه”.
لكن ما دفع الصحافية البحيصي، إلى مواصلة نقل الرسالة الإعلامية رغم خوفها على صغارها، هو احتضانها للأطفال المصابين ومن فقدوا أمهاتهم، شعرت أنها أمٌّ لهم جميعًا، وأخذت على عاتقها مساعدتهم ورفع صوتهم حتى النفس الأخير، وازنت بين عملها وبيتها، بمساعدة زوجها وابنتها الكبرى التي كانت أمًّا لإخوتها في غياب الأم.
تتابع: “هذه الحرب هي الأعنف في التاريخ، لو استطاعوا تدمير الأنفس لدمروها، العمل الصحافي فيه صعوبة وتحديات كبيرة، لا يوجد أمان ولا حماية لنا، فنحن وعائلاتنا أصبحنا هدفًا للاحتلال، وهذا يشعرني بالمزيد من الخوف عليهم”.
كانت إسراء تخشى أن ينتقم منها الاحتلال باستهداف أطفالها، ما ضاعف العبء عليها وعلى زملائها الصحافيين في حياتهم اليومية، فالناس باتت تخشى الصحافي كونه مهددًا، وهذا جعلهم يعيشون في دوائر صعبة، ومع ذلك أكملوا الرسالة، وكذلك فعلت إسراء.
“استهداف الصحافيين زادنا قوةً وإصرارًا، فالدم الذي يُراق لزميل هو وقود لآخرين، يدفعنا للاستمرار والمواصلة في رسالتنا لفضح جرائم الاحتلال”، تؤكد إسراء.
تعيش الصحافية إسراء البحيصي أصلًا في مدينة غزة، اضطرت للنزوح إلى مدينة دير البلح وسط قطاع غزة، بعد أن هدم الاحتلال منزلين لها، عملت على بنائهما بجهدها وجهد زوجها على مدى 20 عامًا، وضاع شقى عمرهما في لحظات!
تعقّب: “يعزّ علينا أن نترك بيتنا، لديّ منزلين، حين ودّعتهما كأن روحي نُزعت مني، كل شيء فيهما غالٍ على قلبي، ومهما حملت فأنا لن أحمل كل شيء أثناء النزوح، فقط حملت أوراقنا الرسمية المهمة، وتركنا كل شيء خلفنا”.
يأوي بيت عائلة إسراء سبع عائلات نازحة، سبع شهور مضت، لم تجتمع إسراء مع زوجها وأطفالها في غرفة واحدة، لكن اللحظة الأقسى على قلبها، حين استشهدت والدة زوجها!
تتنهّد إسراء بحزن وهي تروي تلك الأوقات: “استشهاد حماتي ترك جرحًا عميقًا داخل قلبي، استشهدت في حضن زوجي الذي اشتاق للجلوس بجوارها، عندما تم قصف منزل مجاور لبيتنا، اخترقت شظية صاروخ رأسها، أقسى مشهد عشته حينما صعدت روحها أمامنا جميعًا”.
قبل أن تجتاز إسراء جدار الحزن على استشهاد والدة زوجها، وفي اليوم الثالث تحديدًا، فُجعت الأسرة بخبر استشهاد شقيق زوجها في مدينة غزة، في أول أيام الهدنة قبل دخول الوقت بساعات، وهو قائم يصلي في المسجد، تقول: “ظنّ أن الهدنة دخلت حيز التنفيذ الساعة 12 ليلًا، ولم يكن يعلم إن الهدنة ستبدأ السابعة صباحًا”.
تكمل: “حتى أفراحنا أُجبرنا على أن يكسوها الحزن، كان موعد زفاف شقيقتي نهاية عام 2023، كل الحجوزات والتجهيزات تمّت، لكن الحرب طحنت كل شيء، وحين طالت الحرب زُفّت إلى عريسها دون مراسم فرح، بل انهمرت دموع الوداع على كل ما يجري، وهي الآن تنتظر طفلها الأول”.
الكثير من المواقف الصادمة لا تستطيع إسراء نسيانها، وستترك أثرًا أبديًا في قلبها الذي حمل في آن معًا مهنية الصحافة وقلب الأمّ.