على ركام الأرصفة مكتبة وفاء تتحدى الإبادة

على ركام الأرصفة مكتبة وفاء تتحدى الإبادة

غزة- بسمة أبو ناصر :

بين أزقّة غزة الضيقة، حيث تختلط رائحة البحر بالبارود، كانت وفاء صلاح الدين تحلُم، ولم يكن حلمها بعيدُ المنال، بل بسيطًا كقلبها الذي يتسع للمعرفة والحياة، آمنت أن الكتبَ نافذةً نحو عالمٍ أوسع، وأن المكتبة ليست مجرد رفوف، بل مساحة للحلم والصمود.

بعد حصولِها على ماجستير العلاقات العامة من السودان، عادت الأربعينية وفاء إلى غزة محمّلة بطموحٍ سرعان ما اصطدم بجدران الواقع، فالشهادة لا تعني الوظيفة، والطموحُ يذبل تحتَ ثقل الحصار، “عدتُ محمّلة بشهادتي وأحلامي، لكن المدينة لم تكن مستعدةً لاحتضاني”، تقول وفاء وهي تلامس شهادتها، كأنها تتحسس هشاشتها أمام واقعٍ قاسٍ.

طرقَت أبواب المؤسسات، أرسلَت سيرتها الذاتية، لكن الرد كان رفضًا بسبب بلوغها سن الأربعين، ومع كلِ يومٍ يمرّ، أدركت أنها لا تملك ترف الانتظار، فقررت صنعَ طريقها بنفسها.

هكذا وُلدت فكرة مكتبة (مكتبتي)، في زاوية صغيرة من وسط مدينة غزة، تتسع لأرفف الكتب والقرطاسية، لم يكن مشروعًا تجاريًا فقط، بل امتدادٌ لروحها، سهرت ليالٍ طويلة تخطط بحثًا عن مصادر الكتب التي انتقتها بعناية، “كنت أضع كل كتاب كأنه لبنة في جدار حلمي، أردت للطلبة والقرّاء أن يجدوا في المكتبة عالمًا آخر”، تروي وفاء وهي تمرر أصابعها على غلاف كتاب متفحّم.

قبل شن الاحتلال الإسرائيلي حرب 7 أكتوبر 2023م بأيام، كانت وفاء تتحضّر للاحتفال بمرور عامين على افتتاح “مكتبتي”، زيّنت المكان بالبالونات، ورتبت الرفوف بعناية، تخيّلت الزوار يتصفحون الكتب، يتبادلون الأحاديث عن العناوين الجديدة، لكنهت لم تعلم أن كل ذلك كان وداعًا غير معلن، وأن المكتبة لم تفتح أبوابها لهذا الاحتفال أبدًا.

جاء صباح 7 أكتوبر حاملًا كابوسًا لم تكن تتوقعه، وسرعان ما تحوّل فرحها المنتظر إلى خوفٍ وقلق، حاولت وفاء الوصول للمكتبة، لكن القصف العنيف حال دون ذلك.

ومع تصاعد حدة القصف ومطالبة جيش الاحتلال الأهالي بإخلاء أماكن سكناهم والذهاب إلى ما زعموا إنها “المنطقة الآمنة”، اضطرّت وفاء وعائلتها للفرار مرات عدة، متنقلين بين أماكن مختلفة بحثًا عن النجاة، في كل مرة كانت تجمع ما تبقّى من كتبها، تخبئها بعناية، على أمل العودة وبيعها من جديد.

إلى أن جاءت اللحظة الأصعب، في أحد الأيام، اشتد القصف بشكلٍ أعجزهم عن الخروج من منزلهم، فوالدتها امرأة مسنة ولا تستطيع الركض، جعلت الفرار مستحيلًا، لم يكن أمامهم سوى البقاء، مترقبين المصير خلف الجدران، اقتحم الاحتلال منزلهم، واقتلع الأشجار التي زرعها والدها منذ سنوات.

ويخالف ما تعرضت له عائلة وفاء اتفاقية جنيف الرابعة، التي تحظر التهجير القسري للمدنيين، والاعتداء على ممتلكاتهم.

“كنتُ أعدّ الأيام بانتظار أن أعود وأفتح الباب من جديد، لكن حين وصلت، لم أجد بابًا أصلًا، لأن الاحتلال الإسرائيلي قام بتجريف مكتبتي”، تهمس، وهي تشير بيدها إلى المساحة الفارغة التي كانت عليها المكتبة.

كل شيء تحول إلى ركام، راحت تقلّب الأنقاض بأصابع مرتجفة، تجمع بقايا دفاتر وأقلامًا مكسورة، كأنها تلملم بقايا حلمها.

ورغم كل ما فقدته، لم تستسلم وفاء، نقلت ما استطاعت إنقاذه إلى بسطة صغيرة في السوق، قررت فتحها هي وإخوتها الأربعة لكي يعتاشوا منها في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة.

كانت تُفاجأ يوميًا بارتفاع أسعار البضائع التي تبيعها في البسطة، كل مرة تذهب لشراء دفعة جديدة، تجد الأسعار قد تضاعفت، لكن رغم ذلك، كانت تصرّ على البيع بالسعر القديم قدر الإمكان.

تقول وفاء: “مع الوقت، كبرت الفكرة، ولم تعد بسطة واحدة تكفي، فتوزعت أنا وأخواتي على عدة بسطات في أماكن مختلفة، نبيع ما تبقى من مقتنيات “مكتبتي”، إلى جانب بعض الألعاب والإكسسوارات ولوازم الأطفال”.

“لم نكن نخطط لأن يكون لكل واحدة منا بسطة، لكن الحياة فرضت علينا ذلك”، تضيف وهي تحصي بقايا النقود، تتأكد إن كانت تكفي لشراء بضاعة جديدة.

 

تدمير مكتبتها لم يكن مجرد خسارة شخصية، بل كان جريمة ضد المعرفة، وفقًا للمادة (53) من اتفاقية جنيف الرابعة، يُحظر تدمير الممتلكات المدنية، ورغم أن المادة (91) من البروتوكول الإضافي الأول تكفل للضحايا حق المطالبة بالتعويض عن الأضرار، فإن هذه القوانين تبقى بلا تأثير في غزة حيث لا تصل العدالة.

تدعو وفاء الدول العربية إلى أن تولي اهتمامًا أكبر بالقضية الفلسطينية، وأن تُظهر رحمة بشعب يعاني من وطأة الحصار والدمار، وتطالبهم بدعم المشاريع الصغيرة، مشيرة إلى أنها ليست مجرد مصدر رزق، بل هي دليل على أننا ما زلنا نعيش.

رغم ذلك، ترفض وفاء أن يكون الحطام نهاية الحلم، تحلم بإعادة بناء “مكتبتي”، أن تكون أكبر، أن تحتوي على قاعة للقراءة، وأن تصبح منصة للمعرفة وسط مدينة تحاصرها الحروب، كما تطمح إلى استكمال دراستها، والحصول على الدكتوراه، ليس فقط كإنجاز شخصي، بل لتوثيق حكايتها، حكاية الصمود الذي لا ينكسر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى