كطائر العنقاء … عبير تنهض وتعيد الأمل للنساء
كطائر العنقاء … عبير تنهض وتعيد الأمل للنساء
غزة- ابتسام مهدي:
“الفقد تجربة صعبة، يعرفه من عاش تفاصيله، إنه مزيجٌ من ألم ووجع ينخران القلب وينتقلان للعقل حتى يصبح غير قادر على استيعاب ما يحدث”.
بهذه الكلمات، استهلّت الشابة عبير المشهراوي (33 عامًا) حديثها، وهي تروي كيف نالت نصيبها من آلام الفقد والجوع والتشريد، ورغم صعوبة ما مرّت به، واصلت عملها دعمًا للنساء، خلال الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، والتي اندلعت يوم 7 أكتوبر 2023م، وأجبر خلالها الاحتلال سكّان شمال قطاع غزة، على النزوح إلى جنوبه، لكن عبير آثرت البقاء بغزة.
تعمل عبير التي تسكن حي الزيتون شرق مدينة غزة، مديرة حالة في مركز (حياة لحماية وتمكين النساء والعائلات) في غزة، المختص بدعم وتمكين النساء ضحايا العنف، والفقيرات في المناطق المهمشة، كأحد برامج مركز الأبحاث والاستشارات القانونية للمرأة، لكن الشابة تعرّضت للعديد من التجارب القاسية.
“استشهد خطيبي في اليوم الذي كان يفترض أن يتم فيه زفافنا”، بغصةٍ نطقت الشابة هذه العبارة وبكت طويلًا، قبل أن تتمالك نفسها وتكمل: “كان ذلك يوم 14 فبراير 2024م، قصف الاحتلال سيارة كان يستقلها خلال توجهه إلى أحد مراكز الإيواء لتقديم ورشة عمل صباحًا، بينما كان زفافنا المنتظر مساء ذات اليوم”.
قبل عامٍ من اندلاع الحرب، انعقد قران عبير على الشاب إبراهيم أبو طويلة، الذي تخرج مثلها من كلية الحقوق، وفي الحرب نزح وعائلته إلى منزل عائلتها بمدينة غزة، فأصبحا أكثر قربًا، وقررا إتمام الزفاف لكن صواريخ الموت كانت أسبق.
بصعوبةٍ كفكفت دموعها وهي تكمل: ” حين بلغني الخبر شعرت أن الدنيا دارت بي، وكأن الكون توقّف، دخلت في حالة نفسية سيئة، شعرت لأول مرة أنني ضعيفة أمام هول الصدمة، عجزت عن تخطّي مشاعر الحزن”.
حينها، استفحلت المجاعة بمدينة غزة وشمال القطاع، نتيجة الحصار الإسرائيلي وتكراره الهجوم على المستشفيات مع عدم توفر وسائل مواصلات، بينما حالة عبير تزداد سوءًا صحيًا ونفسيًا، نتيجة لحالة إنكار فقدان خطيبها، وإصرارها على الذهاب للقائه وكأنه على قيد الحياة، ومع عدم وجود أطباء تدهورت صحتها.
“دخلت في غيبوبة، بسبب تسمم الدم الناتج عن فقدان القدرة على النوم أو تناول الطعام والشراب، مع عدم قدرة على الوقوف والخذلان من كل جسدي، كنت على وشك فقدان حياتي”، تقول عبير ثم تتنهد بعمق وهي تنظر لصورة خطيبها.
خضعت عبير لاحقًا للعلاج، وتلقت الدعم من عائلتها وزميلاتها في العمل، فامتلكت بعض القدرة التي مكّنتها من العودة لعملها في دعم النساء، بل عادت لمواصلة مسيرتها التعليمية التي شجعها خطيبها عليها وكانا يخططان لمناقشة رسالة الدكتوراه خاصتها بعد الزفاف.
لكن آلام الفقد لم تقف عند هذا الحدّ، فقد لاحقت عبير مجددًا، أثناء تقديمها جلسة دعم لمجموعة نساءٍ في مركز إيواء، تلقت اتصالًا يخبرها باستشهاد شقيقتها مع كل عائلتها.
تضغط على وجنتيها بقوةٍ وتكمل: “كان ذلك يوم 26 يوليو 2024م، ذكرى ميلادي، رغم صدمة الخبر كتمت مشاعري، وواصلت الجلسة، ثم عدت لمنزلي وبين أفراد عائلتي عشت مشاعر الحزن، حاولنا مواساة بعضنا كي لا ننهار، بكيت كثيرًا وكتمت الألم كثيرًا”.
ويخالف ما تعرضت له عبير اتفاقية جنيف الرابعة الخاصة بحماية المدنيين وقت الحرب، وخاصة المادة (3) التي تحظر التعرّض للمدنيين بالقتل، كما تحظر استهداف المستشفيات والمرافق الصحية.
ناقشت عبير رسالة الدكتوراه في 17 أكتوبر 2024م، تقول: “لم يكن الأمر سهلًا، خاصة أن المناقشة تمت عبر مواقع التواصل الاجتماعي، حاولت أن أتحدى كل ما مررت به، وأحصل على الدكتوراه”.
عملت عبير على تقديم الدعم النفسي للنساء في أماكن النزوح، تعقب: “هؤلاء النسوة بحاجة لخدمات الدعم النفسي، أفكّر في الحالات التي ألتقيها وأتابعها، دوري تجاههن شجعني على العودة كي لا أخذلهن، أنا وجدت من يقف بجانبي وأحب أن يجدن من يقف بجانبهن”.
شعور عبير الدائم بمسؤوليتها تجاه النساء، كان دافعًا لها كي تعود للعمل، مثلما كان دافعًا لمواصلة إتمام دراستها للحصول على الدكتوراه في مجال الصحة النفسية من جامعة بالسودان، كتخصص ثانٍ بعدما تخرجت أصلًا من كلية الحقوق.
“أعطيت من وقتي مساحة كافية للحزن، ولم يكن الأمر سهلًا، لكن هذا ساعدني لاحقًا على تجاوز الأزمة”، تقول عبير التي تجزم بأن ظروف الحرب لم تمنحنا الفرصة الكافية حتى للتعبير عن الحزن، فمع الاستهدافات المتكررة، والتجويع، والنزوح المستمر، أُجبر الناس على إخفاء مشاعر الحزن، “أو تأجيلها حتى انتهاء الحرب”، تقول عبير وهي تهزّ رأسها بأسى.
تعرضت عبير للخطر أكثر من مرة، خلال عملها في مراكز الإيواء ومخيمات النزوح، ورغم اتخاذها تدابير السلامة لكن الاجتياحات تحدث فجأة، تختم: “كان يحدث الاستهداف فجأة للأماكن، نجوت أكثر من مرة، وواصلت العمل فهو أمانة، ومسؤوليتي تجاه النساء”.