الصحفي أحمد منصور.. النار بديلًا عن السلام

الصحفي أحمد منصور.. النار بديلًا عن السلام

 خانيونس – دعاء برهوم:

“النار التي أحرقت أحمد لن تنطفئ من قلبي، وداعه كان ناقصًا، لم نتحسس وجهه الملائكي، أطفاله لم يقبّلوه قبلة الوداع الأخير لتظل ذكراه محفورة في صورتين، أحمد الحنون على أبنائِه ومَن حوله، وأحمد الذي التهمت النار جسده”.

بهذه الكلمات تحدثت الشابة فداء منصور (33 عامًا)، زوجة الصحفي أحمد منصور (35 عامًا)، والذي استشهد حرقًا بعدما قصفت طائرات الاحتلال الإسرائيلي خيمةً للصحافيين قرب مجمع ناصر الطبي بمدينة خانيونس جنوب قطاع غزة، يوم 7 إبريل 2025م.

تفاصيل ما جرى يرويها الصحفي عبد الرؤوف شعث (33 عامًا)، الذي هبّ لنجدة أحمد من بين النيران، فقد كانت الساعة تشير إلى الواحدة والنصف بعد منتصف الليل، حين التهمت النيران خيام الصحفيين إثر قصف إسرائيلي لها، فحاول شعث إنقاذ أحمد الذي بدا وسط النار عاجزٌ تمامًا عن الحركة.

يقول شعث الذي أصيب بحروقٍ أثناء محاولته إنقاذ أحمد: “كان مشهدًا مروعًا، لم أتخيل أن يحدث هذا معنا، حين شاهدت الفيديو في اليوم التالي صرخت (قوم يا أحمد، قوم عشان تنقذ حالك، قوم عشان زوجتك وأطفالك)، كنت أتمنى أن يسمعني، لكن النار أكلت جسده وأسكتت صوته إلى الأبد”.

بالدموع، تقول فداء إنها لم تتحمل هول ما جرى عند رؤية فيديو الحريق، عقلها لا يستطيع نسيان قسوة المشهد، يطاردها التفكير الدائم في تفاصيله وحال أحمد حينها، “ما الذي شعر به، بماذا فكّر؟ هل تألم؟”.

تروي الشابة ما حدث منذ سمعت صوت انفجار ضخم هزّ المنطقة بعد منتصف الليل، فأسرعت لمتابعة الأخبار لمعرفة مكان سقوط الصاروخ الذي قالوا إنه قصف على خيمةٍ أمام مستشفى ناصر، حينها سارعت للاتصال بأحمد، فلم يُجب.

تنهمر الدموع من عينيها وهي تكمل: “توجهت مسرعةً إلى مستشفى ناصر بحثًا عن أحمد، كنت أريد الاطمئنان عليه، التزم الجميع بالصمت واكتفوا بجملة (بحاجة للدعاء)”.

حينها، أخرجوا من الغرفة مصابًا محترقًا بالكامل، وهي تواصل السؤال عن أحمد دون أن تتخيل إنه هو، وبعد ثماني ساعات علمت بخطورةِ حالته، بقي عندها بعض الأمل بتحسّنه، لكنها صُدمت حين عرفت أن المصاب الذي شاهدته هو زوجها، فوجهه متفحّم بالكامل، نقلوه إلى المستشفى الأوروبي ليمكث في العناية المكثّفة، حتى أُعلن استشهاده يوم 8 إبريل 2025م.

تمسح فداء دموعها وهي تكمل: “كنت أخاف كلما سمعت عن خبرٍ لاستهداف الصحفيين، قبل استشهاده بأسبوع مازحته طالبة منه ترك عمله، لكنه رفض، وقال سأكمل رسالتي في نقل معاناة الناس والانتهاكات التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي بحقهم، مهما كانت التحديات”.

تبكي وهي تستذكر كيف كان أحمد يطمئنهم دومًا، ويدعوهم للتفاؤل بأن الحرب ستنتهي يومًا، ويعودون لمواصلة حياتِهم، لكنه رحل، وبقيت الحرب تحصد أرواح الأبرياء.

تتنهد وهي تضيف بصوتٍ خافت: “يوم 12 إبريل 2024م، وضعت طفلي الأصغر، أطلق عليه أحمد اسم سلام، على أمل أن يعمّ السلام، كان حلمه أن تتوقف الحرب، لكنه ترك صورته الأخيرة جُرحًا غائرًا في قلبي بدلًا من السلام”.

اعتاد أحمد أن يقول لطفله وسام (9 سنوات) أنت رجل البيت في غيابي، لكن اليوم غاب الأب للأبد تاركًا فداء تصارع الحياة وحدها مع أطفالها، فالأب الحنون الذي كان يلعب مع أطفاله كان يتحوّل إلى بطل وهو ينقل بالصورة والقلم معاناة الناس.

منذ بداية الحرب، عانت فداء وأحمد مرارة النزوح ثماني مرات، بدءًا من بيتهم في حي الأمل انتقالًا إلى مدينة رفح، ثم إلى مواصي خانيونس غرب مدينة خانيونس، وتنقل خلال هذه المرحلة من مكان لآخر.

تقول فداء: “ذات مرة كنا نازحين في منطقة الإقليمي جنوب مدينة خانيونس، وصدر أمرٌ من الاحتلال بإخلاء المنطقة بينما أحمد في عمله، حاولت الاتصالَ به ولم أستطع بسبب ضغط الشبكة، فنزحت وحدي مع أطفالي الثلاثة وتركت كل أمتعتي في الخيمة”.

تقيم عائلة أحمد حاليًا في خيمةٍ نصبها إلى جوار بيتهم في حي الأمل بمدينة خانيونس، والذي دمرته آلة الحرب الإسرائيلية أثناء اجتياحها المنطقة في ديسمبر 2023م.

ويتنافى استهداف الصحفيين مع بنود اتفاقية جنيف الرابعة لعام1949التي منحت الصحفيين الحماية الممنوحة للمدنيين، حيث تؤكد المادة (79) على حماية الصحفيين الذين يؤدون مهام صحفية في مناطق الصراع المسلح، بينما ينص قرار مجلس الأمن رقم 2222 على ضرورة حماية الصحفيين والأفراد المرتبطين بهم الذين يغطون حالات النزاع كمدنيين.

ووفق المكتب الإعلام الحكومي فإن 212 صحفيًا وصحفية استشهدوا بصواريخ الاحتلال خلال الحرب في أكبر مجزرة تُرتكب بحق الإعلاميين في التاريخ.

تطالب زوجة الصحفي أحمد منصور “35عاما” الذي يعمل محررًا في وكالة فلسطين اليوم، بتحقيق دولي في حادثة حرق زوجها، تختم: “لم يكن يحمل سلاحًا، بل قلمًا”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى