محمد بهلول.. مسعف أعدمه الاحتلال بدم بارد
محمد بهلول.. مسعف أعدمه الاحتلال بدم بارد
خانيونس – دعاء برهوم:
تحدّق حنين بهلول (32 عامًا) في عقارب الساعة كلما اقترب موعد عودة زوجها محمد من عمله ليطمئن فؤادها، فالخطر يلازمه أينما وُجد، وحين دقّت الساعة الثامنة صباحًا دون عودته، بدأ القلق والخوف يسيطران عليها!
“الساعة الثانية فجرًا كان آخر اتصالٍ بيننا، تبادلنا الحديث وأوصيته أن يحافظ على نفسه ولا يكون في المقدمة كما يفعل دائمًا، ولم أكن أعلم أنها آخر مكالمة قبل استشهاده”، تقول حنين ثم تنخرط في البكاء.
يعمل محمد بهلول (35 عامًا) زوج حنين ضابط إسعاف في المستشفى الكويتي جنوب قطاع غزة، اعتاد خلال عمله منذ بداية الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة يوم 7 أكتوبر 2023م، الخروج لإنقاذ الضحايا، وفي كل مرة تضع حنين يدها على قلبها، حتى يوم 25 مارس 2025م، حين حدثت الفاجعة.
تقول: “استيقظت صباحًا على خبر فقدان الاتصال بعدد من عناصر الدفاع المدني والإسعاف أثناء مهمة إنسانية في منطقة تل السلطان غرب مدينة رفح جنوب قطاع غزة، اتصلت بمحمد مرارًا وفي كل مرة أسمع أسطوانة (لا يمكن الوصول إلى الرقم المطلوب حاليًا)، تواصلت مع زملائه بالمستشفى الكويتي وأخبروني إنه خرج في مهمة إنسانية”.
لم تدرِ حنين ما تفعل، زوجها مفقود ولا تملك وسيلة لمعرفة أخباره، وعائلته في حي تل السلطان غرب مدينة رفح محاصرون في منازلهم التي عادوا إليها بعد دخول وقف إطلاق النار حيز التنفيذ يوم 19 يناير 2025م، بينما داهمت دبابات الاحتلال المنطقة يوم 23 مارس 2025م، وحوصرت آلاف العائلات، وذهب محمد وزملائه في مهمة إنسانية لإنقاذ المصابين.
تمسح دموعها وتواصل: “كان محمد يواجه الموت يوميًا خلال عمله وتنقّله من مكانٍ لآخر، لكن لم أتوقع أن يتبدل معطفه الأبيض إلى كفن”.
تنظر حنين إلى زوايا خيمتها الباردة في مواصي خانيونس جنوب قطاع غزة وتكمل: “بعد ثمانية أيامٍ من فقدان الاتصال بمحمد وزملائه، عثروا على جثامينهم داخل حفرة كبيرة، لم أتمكن من رؤية وجهه، ولم أطبع قبلة وداع على جبينه، كان داخل كيسٍ أبيض، فقط وضعوا صورته على الكفن لمعرفة من بداخله”.
بعد أيامٍ شاهدت حنين فيديو تم تصويره بهاتف المسعف الشهيد رفعت رضوان، زميل زوجها، تقول: “اهتز جسدي وصرخت، تم إعدامهم بشكل وحشي، الجريمة تفوق الخيال، ولم تحدث في العالم”.
ويؤكد مقطع الفيديو، أن رجال الإسعاف والدفاع المدني وعددهم (14 فردًا)، كانوا يضعون شارات تميزّهم وتؤكد عملهم الإنساني، وأنه تم إعدامهم ودفنهم في حفرة جماعية ومعهم سيارة الإسعاف، عثر عليها أفراد من الأمم المتحدة أثناء مهمة البحث عنهم.
ويعد ما تعرّض له محمد وزملاؤه انتهاكًا للمادة (20) من اتفاقية جنيف الرابعة الخاصة بحماية المدنيين وقت الحرب، والتي نصت على توفر الحماية لأفراد الخدمات الطبية المنشغلين كليًا في البحث عن الجرحى أو جمعهم ونقلهم للمستشفيات.
يعمل محمد بهلول ضابط إسعاف منذ التحاقه بجمعية الهلال الأحمر عام 2013م، عَايَش العديد من تجارب الحروب والتصعيدات، هذه الحرب أكثرها دموية وقسوة، لكن هذا لم يُثنِه عن مواصلة عمله في إنقاذ الضحايا، بل إنه كان يردد دومًا: “أنا بحمل أمانة ويجب تأديتها بالكامل، الناس بحاجتي وأريد أن أقابل ربي راضيًا مرضيًا”.
حصل محمد على شهادتين متتاليتين، الأولى حين تخرّج من جامعة القدس المفتوحة في مجال الإدارة الصحية، والثانية بعد حصوله على دبلوم تمريض، والشهادة التي لا تعادلها شيء هو لقاء الله صائمًا وهو في طريقه لأداء مهمته الإنسانية كما تضيف زوجته.
حنين أم لخمسة أطفال، أصغرهم لا يتجاوز شهرين، حينما وضعته لم يتمكن والده من رؤيته إلا بعد أسبوعٍ من ولادته، لأنه كان يقوم بعمله الإنساني، ويفضل أن يتقدم الصفوف ويختار سيارة الإسعاف الأولى في مقدمة المواكب، متحديًا كل المخاطر من أجل إنقاذ الضحايا.
ذاقت حنين ويلات الحرب، باستشهاد زوجها الذي تصفه بأنه (قصم ظهرها)، ونزوحها من شرق محافظة رفح جنوب قطاع غزة منذ الأيام الأولى للحرب، إلى منطقة تل السلطان غرب المدينة، ومع تكرار النزوح استقرت داخل خيمةٍ في مخيمٍ تابع للمستشفى الكويتي غرب محافظة خانيونس جنوب قطاع غزة.
لم تمضِ أيام على استشهاد محمد حتى وجدت حنين نفسها مضطرة لتحمّل أعباء الحياة وحدها، هي المسؤولة عن توفير احتياجات صغارها، وتأمين متطلبات الحياة داخل الخيمة، وحدها الأم والأب بينما حالة الحزن تهشم أنفاسها.
على باب الخيمة، تقف الطفلة ديما (8 أعوام) ابنة محمد وتقول: “بابا قبل الحرب كان يروح معي على المدرسة، والحرب أخدت مني بابا وأخدت المدرسة”.
تكمل: “أنا وصية بابا لأخوتي، كان دايما يوصيهم عليّا لأني البنت الوحيدة وباقي أخوتي أولاد، كان حريص على تعليمنا وتحفيظنا القرآن”.
تبتلع حزنها ” منذ استشهاد بابا، أخذ شقيقي الأكبر صبحي (11عام) على عاتقه تلبية احتياجاتنا، يصطف لساعات امام التكية للحصول على الطعام الذي يسد جوعنا، ويصطحب معه شقيقي علي (10اعوام) لتعبئة جالونات المياه، للاستمرار في الحياة الصعبة التي لا طعم لها ولا لون سوى الدم.
عودة إلى حنين التي تختم: “أطالب المجتمع الدولي والمنظمات الحقوقية الدولية تقديم مرتكبي هذه الجريمة إلى محكمة الجنايات الدولية لمحاسبتهم”.