سامية تنزف بصمت في الخيام
سامية تنزف بصمت في الخيام
خانيونس- هبة الشريف:
احمرّ وجه الشابة سامية علوان وهي تسعل بشدّة، ثم تتنهد قائلة: “أنام وأصحو على السعال الجاف وآلام المفاصل التي لا تفارق، ما ذنبي حتى أعاني كل هذا ولا أجد علاجًا”.
تقيم سامية (24 عامًا)، مع عائلتها داخل خيمة مهترئة في منطقة المواصي غرب محافظة خانيونس جنوب قطاع غزة، بعدما أجبرهم جيش الاحتلال الإسرائيلي على النزوح قسرًا من بيتهم في محافظة رفح جنوب القطاع في مايو 2024م، خلال حرب الإبادة التي شنّها على قطاع غزة منذ 7 أكتوبر 2023م.
بوجهٍ شاحبٍ وعينين ذابلتين تقول الشابة: “لم أجرّب يومًا طبيعيًا في حياتي، كل يوم يمر هو معركة جديدة بيني وبين جسدي الذي لا يقوى على المرض، وزادت معاناتي بسبب الحرب”.
منذ صغرها، اكتشفت عائلة سامية إصابتها بمرض وراثي نادر اسمه (فون ويلبراند)، يعطّل قدرة الدم على التجلط، فتصبح نسبة السيولة ضعف سيولة الدم الطبيعي بـ 66 مرة، ما يعني أن جرحًا بسيطًا يمكن أن يكلفها حياتها.
تمسك سامية بيدِ أمها وكأنها آخر ما تبقّى لها من أمان وهي تدعو بصوتٍ متقطّع، وجهها الشاحب لا يخفي دموعها؛ وعينها الغارقتين في الرجاء تملآن السماء دعاءً، لعل معجزةً تفتحُ أبواب المعبر الذي يغلقه الاحتلال الإسرائيلي، وتُفتح معه أبواب الحياة، ثم تقول باكية: “نفسي أعيش مثل غيري، كل يوم بعتبره معركة جديدة وحياة جديدة”.
منذ طفولتها تتنقل سامية بين المستشفيات بحثًا عن علاج لحالتها، لكن الحرب فتحت جرحًا أعمق من أي وقتٍ مضى، كما تشرح في حديثها الهادئ المحمل بالوجع.
همست وكأنها تحاول ألا تنهار :”أتحمل هنا وجعًا فوق طاقتي، أقف في طوابير الحصول على المياه الصالحة للشرب لحاجتي لها، وأمشي مسافات بعيدة للوصول لأي فحص طبي أحتاجه أو الحصول على مسكنات للألم الذي لا يفارقني”.
تضطر سامية لركوب الكارو (عربة تجرها دابة) للوصول إلى العيادة، تجلس وقتًا طويلًا تنتظر دورها وسط الكم الهائل من المرضى المتوافدين حتى يحين دورها، في النهاية لا تجد سوى القليل من الأدوية، وبعضها الآخر غير متوفر بسبب إغلاق المعابر.
حلمت سامية بإكمال دراستها، وارتداء زي الجامعة، تكوين صداقات، وربما أن تضحك ذات يوم كما تفعل مثيلاتها في العمر، لكن المرض سلبها كل شيء، حتى أبسط حقوقها.
“الحياة في الخيمة ليست حياة، هي اختبار يومي للبقاء، أصحو وأغفو على آلام مفاصلي، ما ذنبي كي أعاني كل هذا يوميًا، سعالي الجاف يوقظ إخوتي الصغار ليلًا، أنا لا أملك حتى رفاهية إظهار الألم”، تقول سامية.
تقضي سامية ليلها داخل خيمتها الباردة مستلقية على فرشتها غير المريحة، تتناوب على جسدها أوجاع متتالية، تعاني انعدام الخصوصية حتى في الشعور بالألم داخل الخيمة، حيث يتواجد أفراد عائلتها وعائلة خالتها.
“تضيف: “هواء المكان ملوث، لا دورة مياه فيه، حتى الشاش الطبي بات ترفًا ونادرًا ما يتوفر، الدواء صار أقرب للمستحيل”، تهمس بصوت خافت وهي تكمل: “أنا مش ضعيفة بس الوجع أقوى مني”.
تنام سامية على فرشة اسفنجية بالكاد تفصلها عن الرمل البارد، لم يكن النزوح خيارًا، بل هروب من موت محتم، ومع الحرب وتدمير المستشفيات أو ازدحام ما تبقى منها بالمصابين؛ لم يعد هناك دواء ولا حقن ولا حتى أمل.
تضيف: “أحتاج أكثر من عشر جرعات شهريًا من دواء نادر اسمه (الفاكتور فون)، سعر الواحدة منها 100$، بالإضافة إلى البدائل العلاجية المؤقتة مثل حبوب ميروجينون 30 ، هيكساكيبرون ، وعلاج الثايروكسين، فهي إن وجدت أسعارهم تضاعفت بشكل كبير، وعائلتي بالكاد تجد ما يسد رمقها خاصة مع ارتفاع أسعار السلع”.
حتى والد سامية غير قادر على العمل، يعاني من جلطة، ينظر إلى ابنته بعينٍ حزينة، بينما تشدّ أمها على يد ابنتها وتقول لها: “رح نطلع من هالخيمة، ونتعالج، بس اصبري”.
تتكون عائلة سامية من 11 فردًا، اقترضت أكثر من 6 آلاف دولار في محاولةٍ يائسةٍ لعلاجها، وما زالوا يحاولون تسديد ثمن حياة لم تبدأ بعد.
الآن، وفي ظل ظروف الحرب، وشحّ الأدوية، دخلت سامية المرحلة الثالثة من مرضها، هي الأخطر والأقسى، مناعتها منهارة، جسدها مفتوح على كل الالتهابات، من المثانة إلى الرئتين، تعاني ارتخاءً عضليًا، وانسداد قناة استاكيوس، وتعيش وسط حر الصيف وبرد الشتاء بلا كهرباء ولا دواء ولا حتى وسادة طبية.
تكمل سامية: “أنا لا أطلب المستحيل، بدي أعيش، سنة وأنا مش قادرة أخلع ضرس بسبب غياب الإبر التي تخص حالتي”.
تحاول الصمود لدقائق دون بكاء، وتقول: “أنا مش رقم، أنا إنسانة، ونفسي أعيش مثل كل البنات، لطالما حلمت بلبس بدلة التخرج، الآن حلمي أقدر أمشي بدون نزيف”.
ويخالف ما تتعرض له سامية اتفاقية جنيف الرابعة الخاصة بحماية المدنيين وقت الحرب، والتي نصّت في مادتها (23) على حرية مرور جميع رسالات الأدوية والمهمات الطبية.
وختمت سامية حديثها:” أكثر شي مخوفني مش الموت، المخيف أكثر إني أموت وأنا ما ذقت طعم الحياة، كل يوم بناجي ربنا ليش مالي دوا، ما بطلب أكثر من أني أعيش بدون نزيف، بدون خوف”.