مُصابٌ بمتلازمة داون ونهشه الكلب حيًّا “خلص حبيبي ..خلص حبيبي سيبني”.. آخر صرخات محمد
مُصابٌ بمتلازمة داون ونهشه الكلب حيًّا
“خلص حبيبي ..خلص حبيبي سيبني”.. آخر صرخات محمد
غزة – سالي الغوطي:
“خلص حبيبي.. خلص حبيبي سيبني”.
بهذه الكلمات البريئة، نطق الشاب محمد (25 عامًا) وهو يمسح بيده الغارقة بالدماء على رأس كلبٍ يتبع لجيش الاحتلال الإسرائيلي، والذي بدأ ينهش جسده فور مداهمة مجموعة من جنود الاحتلال لبيتهم في حي الشجاعية شرق مدينة غزة، ترافقهم الكلاب المتوحشة!
الشاب محمد صلاح بهار، يعاني من متلازمة داون وتوحّد، هو أصغر إخوته، استشهد والده وهو في عمر العامين، فكانت والدته أم جبريل هي الأم والأب له، يحبه الجميع لطيبة قلبه، لا يعرف الكثير من الكلام سوى (مية أي مياه) و(أكل)، كان يحبُ سماع شقيقته نور الهدى (34 عامًا) وهي تقرأ القرآن، وتُنشد الأغاني بصوتها العذب، محمد لم يؤذٍ أحدًا في حياته، لماذا مات بهذه الوحشية؟ تتساءل والدته.
محمد : سيبني حبيبي خلص …خلص سيبني
السبعينية أم جبريل بهار، هي زوجة الشهيد صلاح بهار الذي استشهد عام 2022، أمٌ لتسعةِ أبناء (6 ذكور- 3 إناث)، بينهم محمد الذي استشهد عام 2002م، وأسيران وابن مفقود، والباقي كتب عليهم النزوح في الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، التي اندلعت يوم 7 أكتوبر 2023، وبينما أَجبر الاحتلال الإسرائيلي مئات الآلاف من سكّان شمال قطاع غزة على النزوح إلى جنوبه، أصرّت عائلة أم جبريل على البقاء في بيتها بحي الشجاعية شرق مدينة غزة.
تقول أم جبريل: “حكايتنا بدأت بتاريخ 27 يونيو 2024، واستمرت ستة أيام متتالية، حين عاد جيش الاحتلال الإسرائيلي للتوغّل في حي الشجاعية، أصوات صراخ وقصف في كل مكان، الطائرات تحوم في الأجواء والدبابات تملأ الحي، حاولنا الخروج من البيت ولكنه كان محاصرًا، كنا نختبئ في دورة المياه يوميًا حتى المساء في أوقات خروج الجيش من المكان”.
أم جبريل: صرخنا (إحنا مدنيين) لكن هاجمتنا الكلاب البوليسية وحسينا إنها ساعة الموت
تدور السيدة بعينيها في المكان كالمصدومة، وكأنها لا تريد الجلوس على كرسيٍ أثناء الحديث عما جرى معهم يوم 3 يوليو 2024، تحديدًا الساعة 11 ظهرًا، حين اقتحم نحو 30 جنديًا من جيش الاحتلال البيت وسط إطلاق الرصاص وقنابل الغاز الخانق، تكمل أم جبريل: “جرينا ندوّر على ملابس بلون أبيض عشان نرفعها، صرخنا (إحنا مدنيين) لكن هاجمتنا الكلاب البوليسية وحسينا إنها ساعة الموت”.
أم جبريل : لم يبقَ مكان في جسم محمد إلا وغرس الكلب أسنانه الكبيرة داخله
ابني رخى إيده وصار الكلب ياكل فيها
تتابع والدموع تغرق تجاعيد وجهها: “أحد الكلاب الضخمة هاجم زوجة ابني (آدم) أم عمر، لكنها استطاعت الهرب، بسرعة البرق حضنت أطفالها وهو يبكون ويصرخون، في هذا الوقت هاجم كلب بوليسي مسعور ابني محمد، الكل صار يصرخ هدا معاق اتركوه، حتى كلابهم لا تعرف سوى القتل، لم يبقَ مكان في جسم محمد إلا وغرس الكلب أسنانه الكبيرة داخله، ابني رخى إيده وصار الكلب ياكل فيها”.
ترتجف يداها وكأن المشهد يتكرر أمامها، دموعها لا تتوقف، تلتقط هاتف ابنها الأكبر جبريل (44 عامًا)، تنظر إلى صورةِ محمد وتقول: “وضعوا محمد في غرفةٍ بمفرده وهو ينزف، حجزوا النساء والأطفال بغرفة وعيون الجميع تترقب محمد بصمت لأنه لا يُسمح لنا الكلام أو الحركة، وبدأ الجيش بالتدخين والرقص والأكل أمام الصغار الجوعى، وسحبوا منا الجوالات”.
تقاطعها زوجة ابنها المكنّاة أم عمر: “لم يكتفوا بهذا، بل أخذوا زوجي آدم درعًا بشريًا من أجل تفتيش غُرف البيت والمنازل المجاورة، وبعد ساعاتٍ عادوا إلى المنزل، وكل من يحاول تحريك جسده يضربوه، حتى أخت زوجي سارة (33 عامًا) حين حاولت أن تنظر إلى محمد لتطمئن عليه ضربها أحد الجنود”.
تتذكر أم عمر لحظة هجوم الكلاب عليهم تقول: “حاول أحد الكلاب الهجوم على ابني محمد (5 أعوام) وهو في حضني، لا أريد أن أتركه فقد فقدت أهلي جميعًا في غارة بحي الشجاعية منذ شهر ولم يبقي لي أحد، بدأ محمد بالصراخ والبكاء الشديد فهربت بأعجوبة، وكان كل الوقت يردد قول الله تعالى “إنّا عليكم لحافظين”، طفلتي رغد (١٣ عامًا) كانت تفقد الوعي باستمرار كونها مريضة سكري من الدرجة الأولى، ومع الخوف وقلة الطعام أغمي عليها، ولم يرأف الجنود لها بل كانوا يأكلون الشوكولاتة والشيبس وأبنائي جوعي”.
كان عدد الأطفال في الغرفة 9 كما تروي أم عمر، بينهم حفيدة ابن عم زوجها اسمها داليا بهار (10 أعوام)، والتي كانت تخفف عن الأطفال بقوةٍ وصمود الكبار، وتردد “رح نطلع وأنا بدي أحمل الراية البيضا ورح نعيش”، كانت الطفلة تبعث القوة في قلوب من حولها صغارًا وكبار.
تحرّك أم عمر يديها في حيرةٍ وكأنها تحاول وصف المشهد بكل الطرق، تقول: “الساعة السادسة مساءً، تلقّى أحد الجنود اتصالًا ثم غادروا المنزل بسرعةٍ كبيرة ومعهم زوجي وشقيقه سيف الدين، قبل ثلاثة شهور فقدنا شقيق زوجي الثالث جاد الحق (٣٦ عامًا)، أصبح لدي الاحتلال ثلاثة إخوة، حينها صرخنا كلنا “بدنا محمد”، ردّ الجندي بغطرسة “محمد ليس هنا”، غادروا المكان، تمنينا الموت على أن نترك محمد، هو لا يقبل أحدًا سوى أمه”.
شقيقة زوجي سارة كتبت رقم جوال أخوها على يدها عشان لو متنا وحدا شافنا يتواصل مع أخوها
تمسح أم عمر دموعٍ هطلت من عينيها وتكمل: “خرجنا من المنزل نحمل رايات بيضاء، أخبرَنا الجيش أن الوضع أمان، لكن الدبابات كانت تطلق النار بشكلٍ كثيف، والطائرات تقصف في كل مكان، احتمينا بجدران المنازل المقصوفة، وبدأ اليأس يسيطر علينا، أخرجتُ هاتفي الذي خبّأته من الجنود واتصلت بشقيق زوجي ميكائيل (43 عامًا)، تنقّلت بهاتفي في كل الاتجاهات كي ألتقط إرسال، شقيقة زوجي سارة كتبت رقم جوال أخوها على يدها عشان لو متنا وحدا شافنا يتواصل مع أخوها”.
مشاهد الموت رافقت أم جبريل وعائلتها طوال الطريق، وهو الوصف الذي حاولت شرحه، وتكتفِ بتنهيدة كلما عجزت، تمامًا كما كانت تفعل زوجة ابنها أم عمر، التي ما إن أجاب شقيق زوجها على اتصالها حتى شعروا إن روحهم رُدّت إليهم، طلب منهم التوجّه إلى منطقة تسمى ساحة الشوا وسط مدينة غزة، وهو سيكون بانتظارهم، وصلوه وبدأوا بالصراخ مما عايشوه لكن روحهم ظلّت مع محمد.
هناك بدأت أم جبريل مناشدة العالم والصليب الأحمر من أجل إنقاذ محمد، لتعود الروح إلى جسدها الهَرِم، تحمل من الوجع جبالًا منذ استشهاد زوجها وابنها قبل 22 عامًا، ليزداد الألم حينما هاتفها قريبٌ لهم يبلغهم إن محمد موجود في البيت لكنه جثة منتفخة (شهيد).
في ذات الغرفة التي احتجزوه فيها ظلّ ينزف طوال الوقت، حتى استشهد وحيدًا، وصارع الموت دون ونيس، لا شيء في الغرفة سوى مكانه، كل الأشياء تغيّر مكانها، السرير، الخزانة، حتى دماء محمد وكأنه كان يصارع الموت، فجثته منتفخة وبدأت بالتحلل.
نور الهدى : كنبة محمد شاهدة على جريمة الاحتلال
منذ السابع من أكتوبر الماضي تشن إسرائيل حربًا وحشية على قطاع غزة، خلّفت أكثر من 38 ألف شهيدة وشهيدًا، و أكثر من 10 آلاف من المفقودين.
ويتناقض ما حدث مع محمد مع اتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة، التي دخلت حيّز التنفيذ عام 2008، فإنه يجب اتخاذ كافة التدابير الممكنة لضمان حماية وسلامة الأشخاص ذوي الإعاقة، خاصة في حالات النزاع والطوارئ والأزمات الإنسانية والكوارث الطبيعية.
كما يخالف ما حدث بنود اتفاقية جنيف الرابعة الخاصة بحماية المدنيين وقت الحرب، والتي حظرت الاعتداء على المدنيين وممتلكاتهم، ما يعني أن محمد يفترض أن يتمتع بحماية مزدوجة كونه مدني ومن ذوي الإعاقة أيضًا.
وحسب تقرير الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان، فأنه يقدر عدد الأشخاص ذوي الإعاقة في قطاع غزة عشية السابع من أكتوبر نحو 58 ألف فرد، فيما تفيد إحصائيات أخرى بأن نسبة هذه الفئة تصل إلى 6.7% قرابة الضعف من سكان قطاع غزة ويشكلون 2.6% من إجمالي سكان قطاع.
أمام جلالة الشهادة يصمت اللسان وتبدأ ذكريات الأحبة هي الباقية تقول نور الهدي شقيقة الشهيد محمد ” محمد ابني وليس فقط شقيقي …. أول أسم نطقه كان اسمي، كنت دائما المقربة له أرعاه طول الوقت، وأبقي معه في البيت، وكان بحب سماع صوتي وأنا أغني له طول الوقت، محمد ملاك من السماء، كان طفلي الصغير اللي الكل بحبه، كنبة محمد شاهدة على جريمة الاحتلال”.