فستان أبيض ومصير أسود…

صفقة الحرب التي كسرت ظهر سلمى

 غزة – نغم كراجة:

“فجأة وجدت نفسي مرتدية الفستان الأبيض… لم يكن حلمًا بل مصيدةً لمراهقة في عمر الزهور”.

بهذه الكلمات اختصرت سلمى (17 عامًا) لحظة التحوّل الجارح من مقاعد الحلم إلى واقعٍ مفروض؛ حين اقتيدت إلى قاعة زفافها دون رضاها، بعد أن سلبتها الحرب حق التعليم وحرية القرار، ودفعتها إلى صفقة غير عادلة اسمها: “النجاة بأي ثمن”.

قبل شن جيش الاحتلال الإسرائيلي حربًا على قطاع غزة يوم 7 أكتوبر 2023م، كانت سلمى (اسم مستعار) تعيش مع أسرتها في حي الزيتون شرق مدينة غزة، والدها يعمل بشكلٍ متقطع في أعمال البناء، بالكاد يسدّ احتياجات عائلته، ومع اندلاع الحرب فقط مصدره دخله الوحيد، وأصبح يعتمد كليًا على المساعدات الشحيحة أصلًا، ما دفع العائلة للبحث عن أي وسيلة لتخفيف العبء المعيشي.

مع اشتداد القصف في ديسمبر 2023م، واقتراب الآليات العسكرية، اضطرت العائلة للنزوح قسرًا إلى أحد مراكز الإيواء غرب مدينة غزة، وبعد دخول الهدنة حيز التنفيذ في 19 يناير 2025م، عادوا لمنزلهم المتضرر محاولين التقاط أنفساهم، ومع استئناف جيش الاحتلال الحرب في مارس 2025م، نزحوا مجددًا إلى خيمةٍ غرب مدينة غزة، بعدما تحوّل منزلهم على كومة ركام.

“الحرب سحقتنا من الداخل… لم يعد هناك سقف يحمينا ولا عمل نعيش منه، كنا نأكل من التكيات.. عندما جاء من يطلب يد ابنتي، شعرت أنني أغرق وأمسك بأي خشبة للنجاة”، يقول والد سلمى الذي يعيل ثمانية أفراد.

كان المتقدم شابًا يعاني من ضعف سمع ولسان ثقيل، عائلته أخبرت والد سلمى أنه يملك دخلًا، وسيصونها ويوفر لها الأمان، فتمت الموافقة على الخطوبة كمحاولة للهروب من الضائقة المادية التي خلفتها الحرب والنزوح، لا عن قناعة ولا رغبة.

“وافقت لأن الحياة دفعتنا لاتخاذ قرارات موجعة تحت النار”، يقول والد سلمى، بينما تهمس هي: “كنت أستعد لامتحانات التوجيهي رغم النزوح، وأدرس في الخيمة، وأقاوم حتى أصل مرحلة التعليم الجامعي لكن الخطوبة أنهت كل شيء فجأة، شعرت أنني أُقصى من حلمي قسرًا”.

لم تكن سلمى تعرف أن الخروج من حلمها سيكون بداية التنازلات، فقد لاحظت سلوكيات غريبة على خطيبها: “يقف في الشارع ويصرخ، لا يعرف الشوارع، يتصرف كطفل غاضب بلا وعي”، كما تقول.

أخبرت عائلتها لكن بدلًا من التريث، فاجأتهم عائلة الزوج بتعجيل موعد الزواج خلال 72 ساعة فيما بدا وكأنه هروب إلى الأمام.

في الأول من يونيو 2025م، وجدت نفسها في قاعة أفراح بحي الزيتون “لم أعرف كيف ارتديت الفستان، كنت أتماسك فقط، حتى القاعة لم تسلم من الحرب إذ طلب الجيش الإسرائيلي إخلاءَها تمهيدًا لقصف مجاور، فغادر الجميع بينما أصرّ زوجي على العودة بالقوة شدّ على يدي بعصبية، كان تصرفه مرعبًا… أدركت أن هناك خطبًا كبيرًا”.

توالت الصدمات وانعزل عنها بعد أيام، لا يتفاعل، لا يعمل، لا يدرك حتى تفاصيل الحياة اليومية، وعندما سألت والدته، قالت لها: “عامليه بلطف… هو يحتاج معاملة خاصة”، وهنا كما تقول سلمى، سقط القناع: “لم يكن مجرد شاب يعاني من صعوبات سمعية، لقد خُدعت، زوجوني من شخص مريض ذهنيًا دون علمي”.

بعد أسبوعين فقط من الزواج، قررت الانفصال لكن عائلة الزوج رفضت وأصرّت على أن تدفع مبلغًا ماليًا كبيرًا مقابل الطلاق، وهددوا والدها بعدم السماح لها بمغادرة الخيمة أو التنقل بحجة أنها “على ذمة رجلهم”، لم يُنفقوا عليها، أو يعيدوا لها أغراضها أو يعترفوا حتى بمصاريفها الشخصية.

تقول سلمى: “لم أكن زوجة… كنت ضحية صفقة على هامش الحرب”، لجَأت إلى إحدى المؤسسات النسوية تستنجد بها في ظل غياب المحاكم والمراكز الأمنية التي دمرتها الحرب، لكن خطوة اللجوء لمحامية هناك لم تمنحها أملًا كبيرًا، فالقضاء متعطل منذ عامين.

يقف والد سلمى اليوم غارقًا في ندمٍ لا يغادر صدره، يقول بصوت متهدج: “ظننت أنني أحميها من الضياع، من جحيم الحرب لكنني دفعتها بيدي إلى جحيمٍ آخر”.

زواج سلمى لم يكن خيارًا حرًا بل أحد تداعيات الحرب المركّبة التي سلبت الحقوق الأساسية للفتيات، وعلى رأسها التعليم والحماية، ويُعد تزويج القاصرات انتهاكًا لاتفاقية (سيداو) التي نصت في مادتها (16) على بطلان زواج الأطفال، كما يخالف بنود القرار (1325) لمجلس الأمن الدولي يطالب بحماية النساء والفتيات في أوقات النزاعات المسلحة.

بالدموع تختم سلمى: “كل ما أريده اليوم أن أعود لكتبي وأحلامي. الحرب سرقت حياتي التي خططت لها.. لا أريد سوى حقي في أن أختار طريقي دون قيد ولا تهديد”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى