الصحافية لميس.. جوع ونزوح وفصل تعسفي أيضا
غزة- رفيف اسليم:
لم يكن صباح 18 مارس 2024م، عاديًا بالنسبة للصحافية لميس الأقرع التي استفاقت من نومها على رسالة نصية عبر الهاتف تخبرها بفصلها من عملها في إذاعة محلية، لتفقد علمها تعسفيًا بسبب الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة!
بحزنٍ تروي لميس قصتها منذ ما قبل اندلاع الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة يوم 7 أكتوبر 2023م:”كانت حياتي مثالية جدًا، أودع طفلي صاحب العامين صباحًا وأذهب إلى الإذاعة لتقديم برنامجي الصباحي، ثم أعود مساءً وأكمل وقتي مع عائلتي، لكن الحرب بدّلت حياتي”.
منذ بدء الحرب كانت الأوضاع قاسية، قصف في كلِ مكانٍ وأحزمة نارية لا تتوقف، ثم جاء الاجتياح البري أواخر أكتوبر 2023م، وإجبار الناس على النزوح إلى جنوب قطاع غزة، ما دفع إدارة الإذاعة لتوصيتهم بالتزام بيوتهم والعمل عبر الانترنت.
“انترنت، أي انترنت”، تقول لميس، فالاحتلال الإسرائيلي عمد إلى قطع كافة خطوط الاتصالات والانترنت بقطاع غزة، خاصة شمال القطاع، ما أجبرها على الانتقال من حي لآخر بحثًا عن إشارة انترنت، لترسل الأخبار عبر المجموعات الإخبارية التابعة للمؤسسة التي تعمل بها رغم المخاطرة بنفسها، وهي تعتلي أحد البنايات السكنية المرتفعة مجرّبة كل الوسائل الممكنة.
توضح لميس: “تخيل أن يعيش الفرد في قفصٍ بلا انترنت ولا اتصالات، لا طرق يمكن أن يسلكها للذهاب إلى العمل، فالشمال تم فصله عن الجنوب حيث أصبحت الإدارة هناك، الاحتلال فعل كل ذلك لتضيق الخناق علينا وليفرض واقعًا جديدًا بلا أمل ولا عمل”.
عاشت لميس الحصار والنزوح منذ بدايات الحرب، تقول: “أسكن في منطقة تل الزعتر في جباليا شمال قطاع غزة، حاصرتنا الدبابات الإسرائيلية أنا و11 فردًا من عائلتي، معظمهم أطفال، ويوم 28 ديسمبر 2023م، مارس الجنود علينا الترهيب والرعب حتى استطعنا الخروج من المنزل بعدما فتشونا تفتيشًا دقيقًا لساعات”.
عن لحظات الحصار تروي: “تخيلي الرعب، أن يصبح صوت ابني رعبًا، لا أريده أن يبكي، لا نستطيع دخول دورة المياه أو إعداد الطعام، فقط أريد احتضانه طوال الوقت، حتى لو استشهد لا أتركه بمفرده، حين خرجت وجدت النساء والأطفال في الشارع يرفعون بطاقات الهوية، بعد استهداف جيش الاحتلال منزل مجاور وسكانه بداخله، فكيف يمكن في تلك اللحظات التفكير بالعمل”.
تردف: “لا أنسى شعوري حين خرجت إلى قلب المدينة وشاهدت الناس تتحرك وتأكل وتنادي، وتمشي في الشارع بعد أسابيع من الحبس الإجباري في منزلنا، أطلقت زفرة ارتياح وأخبرت طفلي مراد أن بوسعه الآن الجري والضحك، لكنه رفض فقد كان مرهقًا، وظل طوال الطريق يسند رأسه على كتفي”.
بعد أن استقرت لميس أخبرت إدارة الإذاعة بما جرى، واتفقت معهم على العودة للعمل، من خلال صياغة تقارير وقصص إذاعية، وتحضير المواد للزملاء الذين يصدح صوتهم عبر الأثير، وإرسال الأخبار لمجموعات الواتساب والتلجرام، فعلت كل شيء لمواصلة العمل لكن رفضت النزوح إلى جنوب قطاع غزة.
تكمل:” فوجئت برسالة الفصل، قلت أكيد بمزحوا، أربع سنوات من العمل هيك بخلصوا؟ الجميع موقوف عن العمل دون استثناء، ولا يحق لأي أحد المطالبة براتبه أو مستحقاته المتبقية”.
تتساءل باستنكار: “هل البقاء بالشمال ذنب أستحق عليه المعاقبة؟ هل طُلب مني أمر ولم أنفذه سوى النزوح جنوبًا؟ أليسوا هم من طلبوا عدم الذهاب إلى مقر الإذاعة في غزة؟”.
تطلق لميس تنهيدة قوية وكأنها تواسي نفسها بكلمة: “الموت مع الجماعة رحمة، علمت أن الفصل طال 20 زميلًا وزميلة، بذات الطريقة غير المسؤولة”.
ويخالف الفصل التعسفي معايير العمل التي أقرتها منظمة العمل الدولية في الاتفاق رقم (158) الصادر عام (1988م)، والتي تنص على ضرورة أن يتم الفصل وفقًا لإجراءات قانونية واضحة ومبررة، وأن الفصل الذي يأتي لأسباب خارجة عن إرادة الفرد مثل النزوح بسبب الحرب لا يعتبر سببًا قانونيًا للفصل.
كما تنص المادة (39) من اتفاقية جنيف الرابعة الخاصة بحماية المدنيين وقت الحرب، وأن توفر للأشخاص المحميين الذين يكونون قد فقدوا بسبب الحرب عملهم الذي يتكسبون منه، فرصة إيجاد عمل مكسب.
بعد مدّة من فصلها، حوصرت مجددًا يوم 23 ديسمبر 2024م، في المستشفى الإندونيسي، التي يعمل بها زوجها ممرض وعاشت معه ذات التجربة الأولى، مضيفة: “يومها نسيت أمر الفصل من العمل، وبدأت أفكر كيف سأنجو هذه المرة، وهل ستكون نهايتي أنا وعائلتي الصغيرة”.
وتضيف لميس: “لما صحيت من اللي أنا فيه، بديت أدور وين ممكن أرفع شكوى، ما همني إنه الدنيا حرب، أو إنه ممكن ما حدا يسمعني”، مردفة: “تواصلت مع الزميلات والزملاء ورفعنا كتاب تظلم لمن يهمه الأمر ولمفوض الإعلام في فلسطين وجميع الشخصيات الأخرى حسب التسلسل الوظيفي، وعلى الرغم من كافة التعهدات بإصلاح الأمر، لم يلتفت إلينا أحد”.
تعيش لميس اليوم مجاعة تضرب أطنابها كل قطاع غزة، بينما يصرخ طفلها مراد جوعًا فوالده الممرض لا يمكنه مطاردة شاحنات الدقيق.
تطلق تنهيدة وتختم: “لو استمريت في عملي لكنت اشتريت لابني الدقيق وساعدت زوجي، خاصة أن واقع غزة صعب والأسعار خيالية، كيف سنعيش، نخشى أن نموت جوعًا”.