معاناة النساء بين فقدان الحضانة وغياب القضاء ودور الوساطة المجتمعية
معاناة النساء بين فقدان الحضانة وغياب القضاء ودور الوساطة المجتمعية
في غزة، لم تعد الأرقام مجرد إحصائيات، بل تحوّلت إلى قصص حياة تُروى بدموع النساء ومعاناة الأمهات. فمنذ اندلاع الحرب الإسرائيلية في 7 أكتوبر 2023، نزح نحو 1.9 مليون فلسطيني، تشكل النساء والفتيات نحو نصفهم. يعيش معظمهم اليوم في مخيمات مكتظة تفتقر إلى الخصوصية والأمان.
وتحوّلت آلاف الأسر إلى حالات إنسانية معقدة. كثير من الأمهات وجدن أنفسهن فجأة محرومات من الحضانة أو الرؤية أو حتى التواصل مع أبنائهن، نتيجة النزوح القسري وغياب القضاء، بينما تحاول الوساطة المجتمعية أن تلعب دور المرمم لما تبقى من نسيج عائلي تمزق تحت وقع القصف.
السيدة (ر)، أم لثلاثة أطفال، اضطرت للنزوح من منزلها في غزة إلى رفح مع عائلة زوجها. لم تكن تتخيل أن تتحول حياتها إلى يوميات من التكدّس، الخلافات، وانعدام الخصوصية, فوجدت نفسي مضطرة للانتقال إلى منزل والدتي وحدي، بعيدة عنهم تمامًا. لم أعد أعرف عنهم شيئًا، ولم أتمكن حتى من سماع أصواتهم, وتضيف: “كنت أستيقظ كل يوم وأتمنى فقط أن أرى أطفالي”.
بعد شهور من الغربة والعذاب، وأثناء حضورها جلسة دعم نفسي للسيدات في أحد مراكز النزوح، التقت بالمحامية إيمان فطيمة، التي كانت بمثابة طوق نجاة لها، ومصدر أمل لإعادة شملها بأطفالها. حيث تدخلت المحامية كوسيطة صلح، واستطاعت جمع الأطراف، وتنظيم اتفاقٍ أتاح للأم رؤية أطفالها مجددًا.
تقول إيمان فطيمة: “في كل جلسة وساطة، نشعر أننا نعيد للأمهات قطعة من أرواحهن. السيدة (ر) كانت على جهوزية تامة للإصلاح، وكل ما كانت تحتاجه هو مساحة آمنة وحوار منصف. نعمل على توفير هذه المساحات، ونحاول أن نكون صوت الأمهات اللواتي فقدن كل شيء.”
حين يتوقف القضاء… تبدأ الجراح
بحسب القانون، الحضانة تُمنح للأم ابتداءَ ما لم تسقط عنها قضائيًا، لكن الحرب قلبت هذا الواقع رأسًا على عقب. توضح المحامية فطيمة: “مع إغلاق المحاكم وتجميد القضايا، وجدت الكثير من الأمهات أنفسهن محرومات من حقوقهن، ليس بسبب حكم قضائي، بل لأن القضاء غائب. ومن هنا جاءت الوساطة المجتمعية لتعيد لهن بصيصًا من الإنصاف.”
وتري الأخصائية النفسية آمال قنن: الانفصال القسري عن الأطفال لا يُحدث شرخًا قانونيًا فحسب، بل جرحًا نفسيًا عميقًا. كثير من النساء يعانين من الاكتئاب والقلق، بينما يعيش الأطفال أيضًا تداعيات الحرمان العاطفي. الدعم النفسي لم يعد ترفًا، بل ضرورة عاجلة.”
وفي ظل غياب العدالة الرسمية، أصبحت الوساطة المجتمعية هي الحل الوحيد المتاح لكثير من النساء. تقول المحامية فطيمة :” نحو 70% من الحالات التي أحيلت إلينا تم تسويتها بنجاح، وتمكنا من إعادة التواصل بين الأمهات وأطفالهن. هذه العملية لا تعني فقط حل النزاع، بل استعادة الحياة.”
وبدوره أكد المحامي محمد السقا -منسق مشروع “نشر العدالة والتواصل الفعال خلال الأزمات لبناء الصمود ودعم القانون في قطاع غزة”. لدى مركز التنمية الإعلام المجتمعي – أن الوساطة المجتمعية لم تعد خياراً بديلاً، بل ضرورة إنسانية وقانونية في ظل تعطّل النظام القضائي.
ويقول: “نحن بحاجة ماسة إلى تبني مسارات موازية تحمي حقوق الفئات الهشة لاسيما النساء والأطفال، خاصة في قضايا الحضانة والمشاهدة والنفقة والوصاية. لا يجوز أن تبقى الحقوق معلّقة بانتظار فتح المحاكم، وهناك ما يمكن فعله الآن.”
ويقدم المحامي السقا مجموعة من التوصيات العاجلة أبرزها :”توسيع برامج الوساطة المجتمعية، وتدريب مزيد من الوسيطات والوسطاء المؤهلين قانونيًا، خصوصًا في مراكز الإيواء والمخيمات. واستحداث آليات قانونية مرنة ومؤقتة تضمن للنساء حقوقهن في الحضانة والمشاهدة، بصيغ تعاقدية تحفظ الحقوق إلى حين عودة المحاكم.
ويؤكد السقا على إطلاق حملات توعية مجتمعية لتعزيز ثقافة الوساطة، وتحفيز العائلات على اللجوء إليها لحل النزاعات بدلًا من تأجيجها، مبين أن مركز التنمية والإعلام المجتمعي يعمل على ذلك في الوقت الحالي. ويختم السقا بقوله: “في زمن تنهار فيه الأنظمة، تبقى العدالة المجتمعية صمام أمان. لا نبحث عن بديل دائم للقضاء الرسمي، بل عن عدالة تُمارس الآن، وتُنصف الناس حين يحتاجونها.”