العدالة زمن الغياب … كيف تنقذ الوسائل البديلة النسيج المجتمعي في غزة؟
العدالة زمن الغياب … كيف تنقذ الوسائل البديلة النسيج المجتمعي في غزة؟
غزة، هبة الشريف، مركز التنمية والإعلام المجتمعي
في أعقاب العدوان الإسرائيلي المستمر على قطاع غزة، شلّ الدمار الممنهج جميع المؤسسات الرسمية، وفي مقدمتها الجهاز القضائي. فقد دُمِّرت المحاكم ومراكز الشرطة والنيابات العامة، ما أدّى إلى غياب شبه تام لمؤسسات إنفاذ القانون، وتعطّل عمل القضاء النظامي بشكل كامل. ووسط هذا الانهيار، لم يعد أمام المواطنين سوى مواجهة مصيرهم دون غطاء قانوني أو جهة رسمية تنصفهم وتفصل في نزاعاتهم.
هذا الواقع المأساوي أفرز حالة من الفراغ القانوني الخطير، وأدى إلى تفاقم الخلافات المالية والاجتماعية بين الناس، بدءًا من نزاعات الأراضي، مرورًا بالخلافات الزوجية، وصولًا إلى قضايا الذمم المالية والشراكات … الخ , وبينما سادت حالة من الضياع القانوني، برزت الحاجة الملحة إلى بدائل مجتمعية قانونية تملأ هذا الفراغ، وتحفظ السلم الأهلي، وتحمي النسيج المجتمعي من التفكك. هكذا عادت الوسائل المساندة للقضاء الرسمي ، كالإصلاح العشائري، والوساطة، والتحكيم العرفي إلى الواجهة، كحلول محلية أثبتت فاعليتها في احتواء الأزمات.
ففي حين كاد متر أرض أن يشعل فتنة عائلية كما يقول الشاب فادي: “وصلت الأمور بيني وبين الجيران لمرحلة لا تُطاق بسبب متر واحد فقط حيث ادعوا امتلاك نصف متر من محيط منزله”. ويتابع: “الجدال تطوّر، ووقعت مشادات أمام الناس، وضرب ورفع سلاح، ولجأنا للشرطة عدة مرات، لكن الرد كان صادمًا: ‘فش حلول رسمية الآن، حاولوا تحلوها ودي’.”
في ظل هذا الموقف، ظلت الأمور معلّقة، واشتد التوتر، إلى أن تدخل رجال الإصلاح في الحي، وتمكنوا من عقد جلسات وساطة أدت لصلح فأنهت الخلاف. ويؤكد فادي: “بدون ذلك، كان ممكن أن يكبر الخلاف ويتحول لمشكلة كبيرة، الحمد لله انحلت”. في إشارة منه لاستخدام الآليات البديلة لحل النزاعات .
وفي قصة إنسانية أخرى، لجأت أم صهيب، وهي نازحة تعيش في خيمة وسط خان يونس، إلى الشرطة خلال الحرب، طلبًا للحماية من زوجها الذي كان يعتدي عليها لفظيًا وجسديًا منذ سنوات، وتضاعفت تلك الاعتداءات خلال فترة النزوح. تقول: “فقدت الأمل، لا أحد كان يسمعني ولا توجد جهة تتحرك لإنصافي. لجأت في النهاية للمختار القريب من الخيام، وحكيت له عن كل شيء”.
وتابعت :”عن طريق المختار، تم عقد جلسة صلح حضرها أهل الزوج، وتعهد فيها بعدم تكرار الاعتداء، وهو ما تحقق فعلاً”. وتضيف: “ما كنت أتخيل إنو الحل حيجي بهالبساطة، لكن المختار كان حازمًا وصريحًا، وأعطاني الأمان”، بل وضمن لي حقوقًا سُلبت، وكفلها بسند تعهد والتزام بشهادة الشهود، مما جعلني أشعر بنوع من الإنصاف.
هذه النماذج غيض من فيض لقصص واقعية حُلت جذرياً أو مؤقتاً من خلال لجوء أطرافها أو تدخل الوسطاء لحلها بالطرق البديلة .
الوسائل البديلة ليست خيارًا بل ضرورة .
يرى المحامي حماد حجازي أن الحلول المجتمعية ليست فقط ضرورية، بل واقعية وأكثر نجاحًا، موضحًا: “الوسائل البديلة لحل النزاعات، مثل الوساطة والصلح العشائري والتحكيم، أصبحت تشكّل حبل نجاة مجتمعي في ظل تعطل القضاء الرسمي، ودورها كان حاسمًا في حقن الدماء ومنع تفاقم الخلافات”.
وأوضح حجازي أن الوساطة تبقى الأكثر استدامة لأنها لا تفرض حلولًا، بل تُبنى على تقريب وجهات النظر حتى يتوصل الأطراف إلى اتفاق ذاتي. أما التحكيم، فيُصدر حكمًا لصالح طرف ضد آخر، ما قد يولد شعورًا بالظلم كما هو الحال بالقضاء الرسمي وان كان أقل كلفةً ووقتاً وأيسر اجرائياً .
وأضاف: “عمليًا، لا توجد قضايا تُعرض اليوم أمام المحاكم، فالمحاكم النظامية معطلة تماماً والشرعية تعمل بالنذر اليسير، ، وانحصر دورها فقط في توثيق عقود الزواج والطلاق بالاتفاق وإصدار بعض الوثائق. لقد حلّ المجتمع محل الدولة في فضّ النزاعات”.
دور رجال القانون والإصلاح في سد الفجوة وضمان السلم
يرى المختصون أن هذه الحالات ليست فردية، بل تمثل نماذج متكررة في ظل الغياب القضائي. فالقول للمختار خليل أبو مصطفى، من جنوب غزة: “القضاء الشرعي كان ملجأ الناس لحل قضايا الأحوال الشخصية من زواج وطلاق وحل النزاعات الأسرية، لكن اليوم المحاكم معطلة، والناس ليس لديها باب تطرقه، من هنا وجب علينا أن نتحرك كمخاتير ووجهاء، من باب العرف، والمسؤولية الوطنية والمجتمعية”.
ويتابع: “القضاء البديل اليوم مش خيار، هو ضرورة، بل واجب وقت الأزمة. الناس تسعى وراء الحلول السريعة الآمنة، ونحن من خلال جلسات الصلح استطعنا حل عشرات القضايا قبل تفاقمها، خصوصًا قضايا المواريث والخلافات الزوجية”.
ويؤكد أن ما يجعل القضاء البديل فاعلًا هو القبول المجتمعي والثقة التي يحظى بها رجال الإصلاح، مشددًا على ضرورة توثيق الاتفاقات وكتابة التعهدات بشكل قانوني صحيح لحماية حقوق الجميع، ريثما تعود مؤسسات العدالة الرسمية للعمل.
بينما يؤكد المحامي/ عز الدين عبد العال أن القضاء العرفي يختلف عن الرسمي، فالقضاء الرسمي أقوى وأفضل من حيث الالزامية، لكن في ظل الظروف الحالية وغياب المحاكم، يبرز دور الآليات المساندة بشكل كبير يساهم في رد الحقوق وانهاء النزاعات .
والخلاصة أنه وبدون شك أن الهوة القانونية التي خلفها الغياب القسري لمنظومة العدالة الرسمية استطاعت الآليات البديلة لحل النزاعات سد جزء منها مما ساهم في الحفاظ على السلم والأمن والاستقرار المجتمعيين .