طريق آخر للموت عبر مرحاض النزوح

طريق آخر للموت عبر مرحاض النزوح

خانيونس- وصال ضهير:

“كنا ندخل الحمام كل خمس صبايا مع بعض”.

مقالات ذات صلة

قالتها الشابة رغد صافي، وأطلقت ضحكة ساخرة، مليئة بالقهر والمرارة، ثم هزّت رأسها بحزنٍ بينما تتلاشى ابتسامتها خلفَ دموعٍ بدأت تترقرق في عينيها!

كانت رغد تسكن منطقة القرارة شرق محافظة خانيونس جنوب قطاع غزة، وخلال حرب الإبادة التي يشنّها جيش الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة، منذ 7 أكتوبر 2023م، نزحت عائلتها صوب مدرسة اسمها “قنديلة” في خانيونس، وهناك عاشت أوضاعًا قاسية نتيجة حصار جيش الاحتلال الإسرائيلي للمدرسة، ووضع قناصٍ قبالتها مباشرة لمنع أي حركة داخلها أو خارجها.

تشرد رغد بنظرها لدقائق وهي تنظر للفراغ في خيمتها الصغيرة التي تعيش فيها حاليًا مع عائلتها بمنطقة مواصي خانيونس غرب مدينة خانيونس، جنوب قطاع غزة، وبصوتٍ متهدّجٍ تقول: “حين اجتاح جيش الاحتلال خانيونس في ديسمبر 2023م، نزحت عائلتي إلى مدرسة قنديلة غرب المدينة، اعتقدنا أنها آمنة”.

“كنا نخاف الذهاب إلى دورة المياه بسبب القناص الموجود قبالة المدرسة، نضطر للصمود حتى يحلّ الليل، ظنًا منّا إنه عند حلول الظلام يصعب على القناص رؤينا، فلا يستهدفنا”، تقول رغد ثم تعود لتطلق ضحكة ساخرة مليئة بالقهر، تستطرد: “كان لي بيتٌ من ثلاثة طوابق في القرارة، عشت فيه بحب مع عائلتي، لكن حياة النزوح شيء آخر”.

تسقط الدموع من عينيها وهي تتذكر المشاهد القاسية التي عاشتها، “الشهداء كانوا يسقطون على الأرض غارقين بدمائهم، ولا سبيل لتشييعهم”.

تهمس رغد وهي تكمل: “النساء كانوا يقسّموا أنفسهم مجموعات، كل خمسة يذهبن إلى دورة المياه مرّة واحدة، ونحن الفتيات كذلك، كل خمسة مع بعض وندخل الحمام سويًا، كل واحدة تقضي حاجتها بسرعة، وباقي البنات يلفّوا وجههم الناحية الثانية، وبعدين نطلع”.

شعور بالألم النفسي، رافق الشابات والنساء خلال توجههن إلى مرحاض الموت، بسبب فقدانهن للخصوصية، وشعورهن بالحرج أثناء قضاء حاجتهن، فضلًا عن عدم تمكنهن من المكوث وقتٍ كافٍ لقضاء الحاجة، ما جعل ذلك عبئًا كبيرًا عليهن.

ويعدّ ما تعرض له النازحون داخل مدرسة قنديلة، انتهاكًا لاتفاقية جنيف الرابعة التي تحظر في مادتها (3) الاعتداء على المدنيين بالقتل أو التعذيب، كما تنص المادة (27) على أنه للأشخاص المحميين حق الاحترام لأشخاصهم وشرفهم وحقوقهم العائلية وعاداتهم وتقاليدهم، وهو ما لم يحدث في حالة رغد.

تتنهد رغد وتطلق زفرة قوية وهي تكمل: “بعد اشتداد الحصار، أصبح جنود الاحتلال يستهدفون كل شخص يحاول الاقتراب من دورات المياه، مما زاد من معاناتنا كنساء، عانينا من صعوبة الوصول إلى دورات المياه، ونقص في الأدوات الصحية الخاصة بنا، من فوط وصابون، خاصة أوقات الدورة الشهرية”.

ومع استمرار جنود الاحتلال باستهداف الخيام المنصوبة داخل المدرسة، خاصة القريبة من دورات المياه، قام الناس بعمل فتحة بين مدرسة قنديلة، ومدرسة الشيخ جبر المجاورة لها، في محاولة منهم للخروج من المدرسة بحثًا عن الأمان.

ترتجف شفتا الشابة وهي تكمل: “اكتشف الجنود أمر الفتحة، وأطلقوا النار نحوها، فحاول الناس عمل فتحة أخرى في الجهة المقابلة لمدرسة الشيخ جبر، كي نستطيع الإخلاء وترك مدرسة قنديلة المحاصرة”.

تقطع الحديث الشابة أماني صافي، ابنة عم رغد وصديقتها ورفيقتها في النزوح، جاءت لتناديها من أجل مواصلة ترتيب خيمتهم، قبل الذهاب إلى البسطة المتواضعة التي يعملن عليها: “حاولنا الخروج عن طريق الحلّابة (الحاجز الذي أنشأه جيش الاحتلال)، لكن الأمر صعب، بسبب تنكيل جنود الاحتلال بالنازحين عن طريق الحلابة”.

تشير أماني بإصبعها إلى بسطةٍ صغيرة قبالة مخيم النازحين الذين يقيمون فيه معقّبة: “نحاول مساعدة أسرتنا قدر الإمكان في توفير بعض المصاريف”.

تعود للحديث عما حدث معهم وهم يحاولون الخروج عن طريق الحلّابة: “اعتقلوا جدي المسن، عمره (62 عامًا)، لذا قررنا العودة إلى خانيونس ولكن هذه المرّة إلى مدرسة مختلفة، اسمها مدرسة الحوراني، أيضًا استمرت معاناتنا في الذهاب إلى دورات المياه، وكنا نذهب إليها مجموعات تمامًا كما المرة السابقة، حتى تمكننا من الخروج إلى مدينة رفح قبل اجتياحها خلال شهر مايو 2024م ونزوحنا إلى هنا في هذه الخيام”.

أخذت رغد نفسًا عميقًا حبسته في صدرها وهي تستمع لابنة عمها أماني، ثم زفرت بشدَة وهي تقول: ” هنا عانينا من مدة الانتظار الطويل وسط طابورٍ طويل، من أجل دخول دورات المياه، بسبب العدد الكبير من النازحين، ونقص المياه، ونقص الأدوات الصحية الخاصة بالنساء، معاناة متواصلة من أجل الوصول إلى دورة المياه”.

تطلق رغد ضحكة ساخرة مليئة بالحسرة وهي تمسح دموعًا تساقطت من عينيها، وتختم حديثها: “حتى بعد ما رجعنا خانيونس، ضلّت نفس المشكلة في الذهاب إلى دورات المياه، معاناة مستمرة”.

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى