آلة الحرب تقطع شريان حياة المزارع أبو ميري
آلة الحرب تقطع شريان حياة المزارع أبو ميري
دير البلح – سالي الغوطي :
يجلس المزارع الفلسطيني جمال أبو ميري وسط ركام أرضه شرق دير البلح وسط قطاع غزة، يستظلّ بما تبقّى من بيوت المحمية الزراعية، تظهر عليه علامات التعب والصدمة بعدما شاهد ما فعتله آلة الحرب الإسرائيلية بأرضه الزراعية، فحوّلتها إلى صحراءٍ قاحلة لا تعرف اللون الأخضر.
“شريان حياتي”، هكذا وصف الرجل الستيني أرضه، فقد كانت مصدر رزقه الوحيد قبل أن يدمرها الاحتلال، كل يوم يحصد سلة غذائية كاملة يتم تسويقها لدى تجار المحافظة الوسطة وضواحيها من طماطم وجرجير وفجل وخيار.
يقول جمال والدموع تغرق عيناه: “كان لي هنا أرض، اليوم لا بيت ولا أرض، لا مصدر دخل ولا مسكن، أحصد القهر والحزن بدلًا من المحصول”.
يشرح الرجل ما حدث: “حين طلب منا جيش الاحتلال إخلاء شرق دير البلح في أغسطس 2024م، ليبدأ عملية برية، توقعت أنها أيام ونعود، تركت خلفي 200 دونم زراعي وبئر ارتوازي أنشأ عام 1966م وورثته عن أجدادي، لديّ 70 دونم من البيوت المحمية و50 دونمًا من أشجار الزيتون و22 شجرة نخيل وغيرها”.
حين دخلت الهدنة حيز التنفيذ في يناير 2025م، أبلغه أبناؤه بأن الصواريخ دمرت الحجر والشجر، ورفضوا ذهاب أبيهم لرؤية تعبه وقد بات رمادًا، لكن بعد أسبوعين أصرّ الرجل على الذهاب لرؤية أرضه وبيته.
يجهش بالبكاء وهو يكمل: “كأن زلزالًا ضرب المنطقة، خسرت 90 ألف دولار في بناء بيتي الجديد، وأرقام لم أحصيها بعد في الزراعة”.
ورغم أن الرجل كان يمتلك بيتًا جميلًا، وأرضًا تتسع لكل أحلامه، لكنه ما زال يعيش متنقلًا من مكان لآخر بعد أربع مرات من النزوح، آخرها بيت مجهور تسكنه الحشرات والحيوانات يعود لأحد أقاربه ولا يصلح للعيش الآدمي.
يعقّب: “البيت الذي أعيش فيه الآن لا يحمي من برد الشتاء الذي يخترق البلاتين المغروس في قدمي يتبعه نوبات صراخ لشدة شعوري بالوجع”.
يضع يده على جبينه بحسرة ويتنهد قائلًا: “بيت النزوح التعيس لا يشبهني، لم أعتد النوم فيه، أعاني من مرض السكر، كنت قويًا ومتحكمًا بصحتي، الآن دائمًا أعاني ارتفاع السكر وأعيش على الأدوية، بسبب التفكير الدائم، فعقلي مشوش لا يتوقف عن التنقل بين الماضي الجميل والحاضر القاتل، أريد أن أستيقظ من هذا الكابوس”.
يحرّك نظارته علّها تخبىء شيئًا من دموعه وهو يروي كيف يذهب أحيانًا برفقة أبنائه الثلاثة إلى أرضه، ربما يجد فيها بقايا لون أخضر تواسيه، لكن الذهاب إلى هناك محفوف بالخطر خاصة ليلًا، بسبب طيران الكوادر كابتر الإسرائيلي التي ما زالت تتواجد في المنطقة الشرقية غير الآمنة.
يتذكّر جمال حاله قبل الحرب قائلًا: “يبدأ يومي بصلاة الفجر، ثم أتجه لأرضي أقضي يومي بين أحضان الطبيعة، أمسك الطورية وانبشها لأزرع ما يخطر في بالي وأسقيها من بئر أجدادي، ومع شروق الشمس يتجمّع أبناء العائلة أمام النار لصنع طبق الشكشوكة للإفطار، وعند موعد الغداء نذبح من دواجن الأرض، كنت أمتلك مضافة كبيرة تضم الأقارب والأصدقاء مجهزة للمبيت”.
وحسب تقييم منظمة الفاو التابعة للأمم المتحدة، تسبب القصف الإسرائيلي بتدمير ما يقارب 75% من الأراضي الزراعية في قطاع غزة، ما يعادل 103 كيلومترًا مربعًا، جراء حرب الإبادة.
يضحك الرجل بمرارة وهو يروي قصته منذ عمل مهندس مساحة في المملكة العربية السعودية، ومع قدوم السلطة الفلسطينية عام 1994م، عاد إلى غزة لينشئ أسرته الصغيرة، لكنه وقع في ب الأرض من النظرة الأولى، وكرّس حياته منذ أربعين عامًا من أجلها، “كنت أرى فيها مستقبل أولادي، رفضت الوظائف الحكومية لأبقى في أحضان أرضي، فعلاقة الفلسطيني بأرضه قوية”.
ويخالف ما تعرّض له أبو ميري نص اتفاقية جنيف الرابعة التي تحظر في مادتها (53) على دولة الاحتلال أن تدمّر أي ممتلكات خاصة أو ثابتة أو منقولة تتعلق بأفراد أو جماعات أو بالدولة أو السلطات العامة، وفي المادة (147) من ذات الاتفاقية يحظر على قوات الاحتلال الحربي القيام بأعمال تدمير واغتصاب للممتلكات على نحو لا تبرره ضرورات حربية.
ينظر أبو ميري إلى أرضه يمينًا ويسارًا، يضرب كفًا بكف وتنهال الدموع من عينيه مجددًا، يتساءل: “لمن أوجه رسالتي، ممن أطلب المساعدة، من يعيد لي تعب السنين وذكريات البيت ودفء الأشجار، لم يسأل عن المزارعين أحد، أصبحت أنا وأولادي دون عمل، نأكل يومًا ونصوم أيامًا بعدما كنا أصحاب أموال”.
يضحك بمرارة وهو يختم: “ماذا فعلت لنا الهدنة، ماذا غيرت في حياتنا، ما زلنا نازحين، منهكين، لا عمل ولا ممتلكات، كل الوقت نبحث عن لقمة العيش، الهدنة أوقفت سلسال الدم، لكن الأجساد فارتها الروح، لا مستقبل، ماذا فعلت بيوتنا وأشجارنا للاحتلال ليستهدفوها بهمجية؟