فقدَ النطق بسبب الصدمة جلسَ أيامًا بجوارِ جثةِ أبيه … خالد: “أواعيا غرقت بدم بابا”
فقدَ النطق بسبب الصدمة
جلسَ أيامًا بجوارِ جثةِ أبيه … خالد: “أواعيا غرقت بدم بابا”
غزة – رفيف اسليم:
يجلسُ الطفل خالد الشمالي (9 أعوام) على الكرسي المقابل لأخصائية علاج النطق، محاولًا تأدية بعض تمارين التنفس التي ستساعده على التحدّث مجددًا، بعد أن فقدَ قدرتَه على الكلام، إثرَ بقاء جثةِ والدِه الشهيد بجانبِه لثلاثةِ أيامٍ متتالية، خلال حصار العائلة بأحد مراكز النزوح شمال قطاع غزة!
الجدّة: خلينا هنا يما أحسن النا وين بدنا نروح
في تفاصيل ما حدث مع خالد، تروي والدته سمر الشمالي (32 عامًا)، إن القصة بدأت يوم 25 أكتوبر/ تشرين الأول 2023م، حين كانت العائلة تستعد لجمع حاجياتها والنزوح إلى جنوب قطاع غزة، قاصدة مدرسة بيت لاهيا شمال القطاع لتوديع والدة زوجها، لكن الجدّة طلبت منهم البقاء شمال القطاع قائلة “خلينا هنا يما أحسن النا وين بدنا نروح”، فأطاع الزوج محمد الشمالي (33 عامًا) والدته، وظلّ إلى جوارِها.
كانت سمر وعائلتها تسكن منطقة أبراج بيت حانون شرق المدينة الواقعة شمال قطاع غزة، نسفها الاحتلال الإسرائيلي منذ الأيام الأولى لحربه على قطاع غزة، والتي أعلنها يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023م، وأجبر بعدها بأسبوعٍ يوم 13 أكتوبر/تشرين الأول، سكّان شمال القطاع على النزوح إلى جنوبه، لكن عائلة سمر كانت ضمن من بقوا شمالًا.
بعد نسف منطقة سكنهم، اضطرت سمر (وهي أمٌ لأربعة أطفال)، وعائلتها إلى النزوح صوب مدرسة بيت لاهيا شمال القطاع، والبقاء هناك حتى فجر 10 ديسمبر/كانون الأول 2023م، حيث حاصر الاحتلال الإسرائيلي المدرسة بالمدفعية والقناصة، لافتة إلى أن زوجها فتح باب الفصل ليجلب لهم بعض المياه، فرماهُ القناصة بعدّةِ طلقاتٍ استقرت في بطنِه.
والد خالد: أنا قلبي حاسس اني حروح مش حيصبّح عليا صبح
هرعت سمر لتنتشل زوجها، محاولةً سحبه وإدخاله للفصل، وما إن استقر حتى قال لها “قلبي حاسس إني حروح مش حيصبّح عليا صبح”، تغمضُ عيناها بحزنٍ وهي تروي: “كنتُ أبكي بحرقة لا أعلم ماذا أفعل، وأطفالي الأربعة حولي، خالد (9 أعوام)، لينا (8 أعوام)، زينة (6 أعوام)، وليان (عامان)، كلهم يتوسلوني أن أنقذه ولا أتركه يموت”.
سمر: ما خليت رقم ما اتصلت فيه، لا اسعاف، ولا صليب أحمر، ولا دفاع مدني، وفي كل مرة تطلع أسطوانة عبرية
ضغطَت بيدِها على جبينها وهزّت رأسها بقوةٍ وهي تستذكرُ ما حدث بمرارة: “ما خليت رقم ما اتصلت فيه، لا إسعاف ولا صليب أحمر ولا دفاع مدني، وكل مرة تطلع اسطوانة عبرية، لم أتمكّن من الوصول لأي جهةٍ يمكنها إنقاذه، استشهد زوجي فجر اليوم الثاني، ويوم 12 ديسمبر/كانون الأول 2023م، هدأ الوضع قليلًا، فأصبح بإمكانهم التنقّل، تبرّعَ رجلٌ لدفنه في ساحةِ المدرسة، كي لا تبقى جثتَه المنتفخة أمامَ نظرِ الأطفال”.
سمر: لما شفت الي صار للرجال حمدت الله انه زوجي استشهد، اشي ما بتحمله عقل وكتير منهم لليوم أهلهم ما بعرفوا أي خبر عنهم
وصل خبر استشهاد زوج سمر إلى عائلتها، فانتظروها عصر ذلك اليوم، ليستقبلهم والدها أحمد داوود (63 عامًا)، والذي تكفّل برعاية صغارها والاهتمام بهم، بينما باتت حالةُ خالد تسوء يومًا بعد يوم، في ظلِ غيابِ التدخّل الطبي.
تقول أمه: “في الأيام التالية لاستشهاد أبيه امتنع خالد عن الكلام، وأصبح عدوانيًا بشكلٍ مبالغ فيه، خاصة أن منزل جده كان مليئًا بالنازحين، ولم يتقبّلوا ردّة فعل الطفل في كل مرة، مما سبب لي إحراجًا شديدًا، ودفعني للجلوسِ معه على بابِ البيتِ لساعات”.
سمر: المشكلة إنو البنات مفكرين بس تخلص الحرب رح يرجع أبوهم ويلاقوا الدار زي ما هيا
“المشكلة إنو البنات مفكرين بس تخلص الحرب رح يرجع أبوهم ويلاقوا الدار زي ما هيا”، تقول سمر، ولا تنكر أن حالة الفتيات أصبحت أكثر سوءًا، لكن خالد كان الأكثر تعلّقًا بأبيه، لذلك كان العبءُ إضافيًا عليها؛ خلالَ الحربِ المدمرة التي نزحت خلالها 6 مرات، كلما اجتاحَ الاحتلالُ منطقةً تتواجدُ فيها.
تضيف: “تعيش بناتي حياةً قاسيةً، خاصةً لينا وزينة، بعد أن حُرِمنَ من والدهنَّ ومن التعليم، دومًا تسألني زينة (متى سأعود إلى المدرسة؟)، وتبكي كونها لم تدخل الصف الأول بعد، بينما تشعر الصغيرة ليان بالذعر مع أصوات المدافع والطائرات، أحاول تهدئتهم وسط شكواهم المستمرة من أصناف الطعام التي اخترعناها حديثًا، والتي لا تشبه الطعام، إثر اشتداد المجاعة شمال قطاع غزة”.
خالد: أواعيا غرقت بدم بابا
“أواعيا غرقت بدم بابا”.
قالها خالد بصعوبةٍ وبكى، ثم اعتدل ليروي كيف كان متشبثًا بأبيه خلالَ الساعاتِ الأخيرة، وكأنه يعلم أنهُ اللقاءُ الأخير، يقول: “عندما أصيب أبي كنت بجواره، ولو أنه لم يتحرك لأصابتني إحدى الطلقات وأسكنتني إلى جواره، لكن قرر الرحيل وحده وتركني أعاني بدونه”، لافتًا إلى أنه استعاد قدرته على الكلام حديثًا، بفعلِ مداومتِه على التمرينات التي توصيه بها المختصة.
يقطع البكاء المتكرر حديث خالد، ثم يعود ليكمل: “كان بابا يغفّيني بحضنه، ويقرأ لي قصة، وياخدني للمدرسة، نروح طشة سوا، يدافع عني لما أتقاتل (أتشاجر) مع حد أكبر مني”.
ويكمل: “اليوم أشعر بالوحدة لأني وحدي لا سند لي، أنظر للأطفال وهم يمكسون بأيدي آبائهم وأبكي كثيرًا؛ حتى تأخذني أمي لقبره، أتحدث معه لكنه لا يجيب”.
تتدخل شيرين البزم أخصائية علاج النطق التي تتابع حالة خالد، بقولها إن مئات الأطفال في قطاع غزة أصبحوا يعانوا من مشاكل في النطق، كالتأتأة، والحبسة الكلامية والسرعة الزائدة في الحديث، بسبب العدوان الإسرائيلي المتواصل، لافتة إلى أن هناك حاجةٌ ماسة؛ لتكثيفِ جلساتِ علاج النطق، في ظل غياب الأدوية، لتخليص الصغار من الصدمات النفسية والمشاهد المروّعة التي عايشوها، والتي أثّرت على مهاراتِ اللغة والنطق لديهم.
وبحسب المادة (3) و(10) من اتفاقية جنيف الرابعة الخاصة بحماية المدنيين وقت الحرب، يُعامل المدنيون معاملة إنسانية، فلا يجوز الاعتداء على الحياة والسلامة البدنية، وبخاصة القتل والتشويه والمعاملة القاسية والتعذيب، أو أخذ الرهائن، بل ويجمع المرضى والجرحى بمكان خاص، ويجوز لأي جهة إنسانية غير متحيزة كالصليب الأحمر عرض خدماتها.
وتنص المادة (8) من الاتفاقية ذاتها على أنه يحق لكل دولة اختيار مناطق الاستشفاء والأمان وتبليغ الدولة المعادية بإحداثيات المكان مع تميزها بعلامة معينة، كما وتنص المادة (11) على أنه لا يجوز أن تكون تلك المناطق هدفا للهجوم، بل تكفل لها أطراف النزاع الحماية والاحترام للمدنيين داخلها مع السماح بوصول الأدوية والمساعدات الإنسانية لهم، وهذا خلافًا لما حدث مع السيدة سمر الشمالي وزوجها ومن حوصروا معها داخل مركز الإيواء.
خالد: بابا كان يجيبلي طحين أيام المجاعة، بس ماما ما قدرت
“بابا كان يجيبلي طحين أيام المجاعة بس ماما ما قدرت”، يقول خالد مشيرًا إلى أن والده كان لبقًا، فحين يتحدث يصمت الجميع ليستمعوا له، وهو يتمنى أن يصبح نسخة عنه عندما يكبُر، كما يتمنّى أن يكون كل ما يمرّ به مجرد كابوس، يعود بعده للعيش في منزلِه برفقة عائلته وكتبه وألعابه.
عن روتينه اليومي في الحرب، يخبرنا خالد إنه لا يفعل شيئًا سوى زيارة قبر والده، والتجول في الحي حين يتشاجر مع الصغار، وحضور أفلام الكرتون التي تشتريها له أمه، وتقوم بتحميلها على هاتفتها النقّال في ظل أزمة الانترنت وعدم قدرة الأطفال على تشغيل هذه الفيديوهات عن طريق الانترنت، مع محاولتِه اليومية لقراءة بعض السطر أو تذكّر أحرف اللغة الإنجليزية وإجراء بعض العمليات الحسابية.