فَقْدٌ وجوعٌ ورعب حسرةٌ في قلب (وردة) … (يا ربي إلا أبويا)

فَقْدٌ وجوعٌ ورعب

حسرةٌ في قلب (وردة) … (يا ربي إلا أبويا)

غزة – رفيف اسليم:

بينما كانت الصحفية وردة الدريملي (31 عامًا) تقول لصديقتها (لو صار اشي لأبويا بموت)، دقّ هاتفها النقّال وكانت المتصلة شقيقتها ياسمين تطلبُ منها ضرورة التوجّه للمستشفى الأهلي العربي وسط مدينةِ غزة، لتتأكد من أن جثة الشهيد الموجودة هناك هي لوالدها، لتجيبها وردة دون أن تنبه (طيب ابعتي أبويا ياخد مني الأغراض) فصرخت بها ياسمين (أبونا استشهد)!

وردة: أبويا لااااااا يا ربي إلا أبويا

“أبويا لااااااا يا ربي إلا أبويا”، هكذا صرخت وردة وانهارت بالبكاء، كان من الصعب في البداية استيعاب الجملة، فاستعانت تلقائيًا بوالدها مثلما اعتادت طوال حياتها، فهو الذي يخلّصها من المواقف الصعبة ويحملُ عنها كلُ ثقيل، تقول وردة: “قطعتُ الطريق عدة كيلو مترات من دارنا للمستشفى وأنا بصرخ أبويا لا يا رب”.

في تفاصيل القصة، فقد أعلن الاحتلال الإسرائيلي الحرب على قطاع غزة، يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023م، وأجبر سكّان شمال القطاع على النزوح إلى جنوبه يوم 13 أكتوبر/تشرين الأول، إلا أن مئات آلاف المواطنين أصروا على البقاء في بيوتهم، ومنهم عائلة وردة، شنّ الاحتلال منذ ذلك اليوم حرب مدمرة راح ضحيتها حتى الآن أكثر من 40 ألف ضحية حسب توثيق وزارة الصحة الفلسطينية.

يوم 29 يوليو/تموز 2024م، غادر سعيد الدريملي (55 عامًا) والد وردة بيتهم في حي الزيتون شرق مدينة غزة الساعة 11 صباحًا بعدما تناول وجبة الإفطار، ليبحثَ لهم كما كلُ يومٍ عن بعضِ المواد التموينية، وحزمةً من الحطب لطهي الطعام وتجهيزِ مشروباتٍ ساخنة، لكنه عاد شهيدًا.

وردة: كنا ناكل أي شي يتوفّر بسبب المجاعة وحتى الموجود سعره غالي جدًا

عاشت وردة وعائلتها أزمةَ نقصِ الغذاء والمجاعة التي انتشرت شمال قطاع غزة، تقول:”كنا ناكل أي شي يتوفّر بسبب المجاعة وحتى الموجود سعره غالي جدًا”.

تضيفُ وردة التي تعملُ موظفةً بمركز التنمية والإعلام المجتمعي: “نزحنا أنا وعائلتي من بيتنا عدّة مرات، أولها يوم 29 أكتوبر/تشرين الأول 2023م، ارتكب الاحتلال مجزرةً بحق عائلة النديم في الحي، نسفوا البيت المجاور لبيتنا دون تحذير، حسينا القيامة قامت ولسة في عيلة كاملة تحت الردم”.

توضح: “يومها شبّ حريقٌ بالمنزل الذي أخليناه بسرعة، استمر الوضع لأيامٍ ونحن نحاول الإطفاء دون جدوى بسبب عدم توفّر مياه، أُصبنا بالاختناق الذي تعاملنا معه بوضع قطع من القماش المبلل على الفم والأنف”.

تواصلت فصول المعاناة حين حوصرت وردة مع عائلتها في منزلهم يوم 20 نوفمبر/تشرين الثاني 2023م، تقول: “تحاصرنا جوا البيت ولمّا فكرّنا نتحرك نجيب ميا ضربوا علينا صاروخ طلعونا من الدار جراي”، تكمل: “قبل الخروج من المنزل شاهدنا جدران المنزل مهدّمة وطارت إطارات النوافذ الحديدية، وصلت الشظايا للأثاث وأتلفته، تركنا البيت وسط ذلك الخراب الذي أصلحه والدي لاحقًا”.

بعدها توالت أحداث النزوح القسري من بيتهم لتصل إلى (10) مرات أحدثها يوم 28 أغسطس/آب 2024، بعضُها في حلكة الليل وأخرى تحت زخّات المطر والطائرات المسيّرة وقذائف الدبابات.

تتابع: “ليس من السهل النزوح مع اثنين من ذوي الإعاقة البصرية، أشقائي عيسى وياسمين”، دومًا تعبّر وردة عن حبِّها الشديد لشقيقيها وتحاول طمأنتهم أنهم جميعًا يواجهون نفس المصير، مع التذكير بخطة الطوارئ وهي خروجهما أولًا من المنزل، وبقائهما في المنتصف خلال رحلة النزوح التي تستغرق على الأقل ساعة مشيًا على الأقدام حتى إيحاد مأوى.

وردة: ما بعرف كيف دبّرت حالي على مدار سنة

عامٌ كامل من مواجهة المجهول، تختصره وردة: “ما بعرف كيف دبّرت حالي على مدار سنة، شحن الجوالات والبطارية يتطلب نحو دولارين يوميًا، الحصول على المياه الصالحة للشرب يتطلب نفس المبلغ، لتكتمل معاناتي بالمشي نحو 800 متر يوميًا للحصول على مياه الاستخدام اليومي، عدا عن المبلغ المخصص للغذاء، لكن كل الصعوبات تتلاشى بوجود أبي”.

لم يكن والد وردة إنسان عادي، فهو صاحب مآثر، مثلما حدث مع امرأة استنجدت به في ذروة المجاعة لإعطائها طعامٌ حصل عليه بشقّ الأنفس وبالفعل قاسمها إياه، بل كان يطوف على بيوت الجيران يتفقد الجائع منهم، وألاد عمها الذين كفلهم فور استشهاد أبيهم، وحتى دفتر الدَين الذي مزّقه خشية أن يكون بين المدينين شهيد، فأزال العبء عن الجميع.

علاوة على ما تعانيه وردة، فهي تشعر بالقلق على باقي عائلتها، أعمامها، عمّاتها، أخوالها وخالاتها، تقول: “عاشوا ذات الظروف هم وأطفالهم كونهم يقطنون معنا في حي الزيتون، تقاسمنا الطعام أيام المجاعة مثلما تقاسمنا الخوف أوقات النزوح”، لكن بعضهم اضطروا للنزوح إلى جنوب قطاع غزة، تحاول ألا تنقطع الاتصالات معهم لكنها تشعر بمرارة الغربة رغم أنهم في ذات البقعة من الوطن.

تلتقط والدتها وسام الدريملي (50 عامًا) أطراف الحديث من ابنتها وردة لتؤكد إن الفقد أقسى ما واجهته العائلة منذ بداية الحرب، الساعة 12 ظهرًا، اكتشفت استشهاد زوجها عندما جاءها صوت ابنها محمد عبر الهاتف قلِقًا يخبرها بخوفه على والده الذي لم يعد إلى المنزل، ليسكنَ القلقُ قلبها وعقلها، وتهرع إلى المستشفى بعدما طلبت المساعدة في الذهاب إليها من أحد الجيران.

أم عيسى: زوجي عمره ما قصّر معنا ولا مع حد

وصلت السيدة المكنّاة أم عيسى إلى المستشفى لتجد زوجها مضرجًا بدمائه، جثمانه يتوسط غرفة فارغة سرعان ما امتلأت بالمودّعين، لافتة: “زوجي عمره ما قصّر معنا ولا مع حد، هذه ليست المرّة الأولى التي يخاطر فيها بحياته من أجلنا، في ذروة المجاعة أصيب بطلقٍ ناريٍ في فخده وفقد خمس وحدات دم وأسعف نفسه عبر دراجةٍ هوائية، وخلال الحصار أيضًا تعرّض للإصابة بشظايا صاروخٍ سقط بالقرب منه”.

كان سبب استشهاده مثلما أخبر الأطباء زوجته هو إطلاق النار عليه من قِبل دبابة إسرائيلية أصابته بأكثر من رصاصة استقرت في بطنه وصدره، مخلّفًا وراءه ستة أفراد هم زوجته وخمسة أبناء، وردة (31 عامًا)، عيسى (29 عامًا)، ياسمين (27 عامًا) محمد (21 عامًا)، وأحمد (19 عامًا).

تروي أم عيسى إن الماء نفد من البيت ذات مرّة، واضطر الأب للخروج الساعة العاشرة ليلًا، وهذا وقتٌ يُحظر فيه الخروج شمال قطاع غزة بسبب الحرب، لكن كانت المياه تتدفّق من بيتِ الجيران فأسرع ليفرغها بالجالونات وساعدته العائلة بينما كانت البلالين الحرارية تتساقط بجانبه، وأوشك أن يُصاب بفعل اندلاع حريق بادروا بإطفائه.

تضيف: “وجود أبناء من ذوي الإعاقة في المنزل يُضاعف المسؤولية، عيسى وياسمين اعتادوا تحمّل مسؤولية أنفسهم، أتفقّد أنا حقيبة الطوارئ الخاصة بهم يوميًا، وحال أردنا النزوح يحمل كلٌ منا حقيبته على ظهره وننطلق سريعًا، وينطلقان وهم يتتبعان خارطة الطريق التي نرويها لهما”.

تكمل ياسمين (27 عامًا) وهي من ذوات الإعاقة البصرية، الحوار متسائلةً:” مَن يستطيع المشي في مدينة غزة دون أن يتعثّر! هناك برجٌ وسدّ من الركام في كل شارع، ومن مكاننا هذا تظهر بركةً للمياه العادمةِ أخبرتني عنها وردة، وفي الناحيةِ الأخرى زجاجٌ يغرق الشارع”، لافتةً أنها لا ترى كل هذا لكن يمكنها الشعور به وسماع (طقطقة) الزجاج.

تضيف: “أنا وعيسى نعرف بيتُنا وأماكن تواجد أبسط الأشياء مثل جالونات المياه، وعندما تريدُ العائلة تغيير موقع أي شيء تخبرنا لأننا نعتمد على ذاكرتنا في كل شيء، حاليًا محتاجين مرافق معنا طول الطريق يخبّرنا وين وكيف نتحرّك في الأماكن اللي بننزح فيها، وهذا يسبب لنا الضيق ونواجه بسببه المعوقات”.

ولا ينكر محمد (21 عامًا) أن مهمة اصطحاب العائلة في كل نزوحٍ صعبة، لكنها قد لا تكون كاليوم الذي فقد فيه والده، يقول: “شعرتُ بنخزة في قلبي، اتصلت بوالدتي لأخبرها أن أبي لم يعد، لأتلقّى منها اتصالًا بعد ساعتين جعلني أتخبّط وأنا لا أعرف كيف سأخبر أشقائي بهذا الخبر، من يريحني من هذا الحِمل الثقيل”.

وخلافًا لما حدث مع عائلة وردة، فإن اتفاقية جنيف الرابعة الخاصة بحماية المدنيين وقت الحرب تحظر النقل القسري للمدنيين من أماكن سكنهم، وتدعو للسماح بتدفق المساعدات، كما تحظر في مادتها (3) التعرّض للمدنيين الاعتداء على الحياة والسلامة البدنية للمدنيين، وبخاصة القتل بجميع أشكاله، كما تنصّ المادة (11) من اتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة على ضرورة ضمان سلامة الأشخاص ذوي الإعاقة في الأماكن التي تتسم بالخطورة ومنها النزاع المسلح.

في أيامٍ المجاعة، كان الأبُ دومًا يذكّر محمد بجملة (طوّل بالك … طوّل بالك)، لافتًا إنه كان للأب بقالة صغيرة أفرغ محتوياتها من بقوليات ومواد تموينية خلال الشهور الأولى للحرب في مكانٍ آمن بالبيت لم تصل إليه شظايا الصواريخ، فكانت عونًا للعائلة خلال المجاعة.

ويفيد محمد بأنه خلال الحرب تعلّم من والده التحطيب وجمع الماء وإشعال النار والتجارة، فكان دومًا ما يجعله يربح من رأسِ مالٍ صغير يؤمّن به قوت العائلة، ويوصيه بألا يحزن على أي وقت وجهد يمنحه للعائلة، خاصة بعدما توقّفت الجامعة وتحوّل لرحالة يبحث عن الماء والطعام، رحل الأبُ وبقيت وصاياه.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى