شقيقته بُترت أطرافها الحرب سرقت من حسن أصدقاء عمره وأطرافه أيضًا

شقيقته بُترت أطرافها

الحرب سرقت من حسن أصدقاء عمره وأطرافه أيضًا

غزة – هبة أبو عقلين:

أمام خيمةٍ مهترئة في أحد مخيمات النزوح وسط مدينة غزة، يجلس الشاب حسن أبو عيطة (19 عامًا) على كرسيٍ متحرك، ينظر بحزنٍ إلى أقرانه الذي يتحرّكون في المنطقة، وبجانبه تجلس جدّته الستينية، ترمقه بنظرات الحنين وكأنها تحاول لملمة ما تبقّى من روحه.

بحزنٍ يسترجع حسن كل ما حدث معه منذ بداية الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، يوم 7 أكتوبر 2023م، وكيف تحوّلت حياته تمامًا، وبات بانتظار تحويلة طبية ربما لا تأتي أبدًا.

يتنهّد بعميق ويحكي بصوتٍ مبحوح: “لم أتخيّل يومًا أن أستيقظ ولا أجد أطراف قدمي وبعض أصابعي، أنا أبحث عن إخوتي وأبناء عمي الذي كنت ألعب وأضحك معهم، فلا أجدهم إلا ذكرى تحت الركام، مجزرة سرقت أطرافي، أحلامي، وأصدقاء عمري، وطني، وضحكتي”.

كان حسن يعيش مع عائلته في منطقة تل الزعتر في جباليا شمال قطاع غزة، وحين اندلعت الحرب، وأجبر الاحتلال سكّان شمال القطاع على النزوح إلى جنوبه بقوا في الشمال، فلم يملكوا المال الكافي للنزوح، فظلوا في مركز إيواء في بيت لاهيا لخمسة شهور.

يقول حسن: “عدنا إلى بيتنا بعد تهديدات الاحتلال للمدرسة (مركز الإيواء)، لكن القصف اشتدّ فنزحنا عبر حاجز للاحتلال أقيم قرب المستشفى الأندونيسي في بيت لاهيا، إلى أقارب لنا في مخيم الشاطئ غرب مدينة غزة”.

في ديسمبر 2024م، كان حسن وعائلته على موعدٍ مع صواريخ ستقلب حياتهم، فالبيت الذي احتموا فيه جميعًا تحوّل إلى مأساة خالدة، ستطاردهم طيلة حياتهم.

يشهق حسن وكأن الحدث يُعاد أمامه وهو يروي: “كنا نجتمع مع أعمامي وأبنائهم في نفس البيت، بلحظة واحدة شعرت أن الأرض اهتزّت وسمعت دويًا هائلًا، ثم اختفى كل شيء فجأة، برميل متفجر دمّر البيت فوق رؤوسنا، استشهد 15 فردًا من عائلتي، أعمامي، أبناء أعمامي، أصدقائي، أشخاص أعيش معهم صاروا في لحظة تحت الأنقاض، بعضهم لم ينتشل إلى الآن”.

بأعجوبة، انتشل حسن من تحت الركام هو وشقيقته ريما التي تكبره بثلاثة أعوام، لكن بُترت أطرافهم، باتت الخيمة موطنهم، وأصبحت حياتهم لا تشبه الحياة.

يتنّهد حسن ويكمل: “حين فتحت عيناي وأنا على سرير المستشفى بلا أطراف، بلا صوت أعرفه، كل شيء حولي غريب، كنت فاقدًا للذاكرة، لا أعلم ما حدث، فقط شعرت أنني خفيف، ثم اكتشفت أنني فقدت قدماي، لم أصدّق، أنا شابٌ في بداية حياتي، حلمت بأن أصبح متميزًا في المستقبل، والآن لا أستطيع حتى الوقوف”.

لم تقف فاجعة محمد عند هذا، فقد صُدم بشقيقته ريما وقد فقدت أطرافها، انتشلا سويًا من تحت الأنقاض ليتشاركا المصير ذاته، في خيمةٍ باردة، وجو قاس لا يناسبُ حالتهم، وحياةٌ أقسى.

يسند ظهره إلى كرسيه المتحرك وهو يستعيد جزءًا من الذكريات التي تسكن قلبه قبل أن تبتلعها الحرب، ويقول بصوتٍ خافت: “كان لدي أصدقاء من أولاد عمي، كنا رفاق درب، نخطط للذهاب إلى الجامعة معًا، نكمل دراستنا ونبني حياتنا، فقدتهم في المجزرة، بعضهم استشهد أمامي وآخرون تحت الركام، لا أستطيع نسيان وجوههم، صوت ضحكاتهم ترنّ في أذني، الآن أنا أكافح للعيش في هذه الخيمة البائسة مع أمي وأبي وإخوتي الأربعة”.

يتألم حسن كلما رأى والداه يكافحان من أجله هو وشقيقته، ويشعر بمسؤولية مضاعفة تجاههم، لكنه لا يملك القدرة على الوقوف، فقط ينتظر تحويلة طبية لتركيب أطراف صناعية، تعيد له بعض الأمل في الحياة.

ويتنافى ما تعرّضت له عائلة حسن مع اتفاقية جنيف الرابعة الخاصة بحماية المدنيين وقت الحرب، والتي نصت في مادتها (27) على وجوب حماية السكان المدنيين في جميع الأوقات، واحترام حياتهم وكرامتهم وسلامتهم البدنية، والمادة (147) من ذات الاتفاقية التي عدّت القتل العمد، والتسبب في معاناة جسدية أو أذى خطير للصحة، خرقًا جسيمًا للقانون الدولي الإنساني.

يتوقّف حسن لوهلة ثم ينظر وكأنه يتحدث للعالم الذي شرّع هذه الاتفاقيات، ويكمل: “نحن الآن لا نطلب شيئًا سوى تحويلة طبية، أريد تركيب أطراف صناعية لي ولشقيقتي، أريد أن أعود للحياة لا أن أكون عبئًا على عائلتي، أن أمشي، أدرس، أعمل، أن أعيش كما أتمنى”.

يستند مجددًا إلى الكرسي وهو يختم حديثه: “أريد الاطمئنان على شقيقتي ريما، أريد أن أراها تضحك، وتعود كما كانت، هذه الحرب سرقت منّي كل شيء، لكني لم أفقد الأمل”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى