دماءٌ وأشلاءٌ ومجزرة… آخر ما رأته (سهير)

  

القاهرة- ترنيم خاطر – بأعجوبةٍ، نجت سهير صبّاح (40 عامًا) من تحت أنقاض منزلها، بعدما أودى قصفٌ إسرائيلي بحياة (25) فردًا من أسرتها، لكنها ظلّت مشوّهة بسبب الحروق التي طالت جسدها، ضمن سلسلة جرائم إبادة يرتكبها الاحتلال بحقِ العائلات الفلسطينية في قطاع غزة.

سهير (40 عامًا)، زوجة وأم لثلاثةِ أبناء فقدت أصغرهم أشرف، في مجزرة ارتكبها سلاح الجو الإسرائيلي في 21/ نوفمبر 2023، حين شّنت طائراته الحربية، سلسلةَ غاراتٍ عنيفةٍ دون سابق إنذار على معسكر جباليا المكتظ بالسكان شمال قطاع غزة، بينهم منزلها المكوّن من ثلاثة طوابق ويعيش فيه جميع أفراد العائلة.

منذ 7 أكتوبر 2023، شن الاحتلال الإسرائيلي حربًا على قطاع غزة، ارتكب خلالها مئات المجازر راح ضحيتها حتى الآن نحو 40 ألف شهيدة وشهيدًا، وأجبر مئات الآلاف على النزوح إلى جنوب قطاع غزة، كان لعائلة سهير نصيبٌ منها.

في شقّة بالقاهرة، كانت تعيش سهير بانتظار تحويلة طبية إلى قطر، تروي بالدموع تفاصيل استشهاد أفراد عائلتها بينهم والدتها وطفلها، وأختها الحامل مع طفليها، وشقيقها وزوجته وأطفاله، وزوجة شقيقها الثاني وغيرهم، تقول: “عشتُ تجربةً قاسيةً ستظلّ محفورةً في قلبي، لن تمحوها الأيام من ذاكرتي، فكيف أنسى تلك الليلة التي حوّلت منزلي لركام وأجساد أعزّ الناس أشلاءً”.

تُغالب سهير دموعها، وتكمل: “مع بداية الحرب على غزة، حرصت أنا وأختي المتزوجة على البقاء في البيت، حتى نعيش سويًا أو نموت معًا فلا تذوق أي منا حسرة الأخرى، لم أتخيّل أن أتجرّع حسرتهم جميعًا”.

هرعت سيارات الإسعاف لإجلاء الشهداء وإنقاذ الإصابات، كانت سهير وابنيها يوسف (22 عامًا) ومحمد (15عامًا) تحت الركام، وبعد محاولاتٍ من طواقم الدفاع المدني وسكّان المنطقة تم إنقاذهم ونقلهم إلى المستشفى، ظن الناس أنهم شهداء لصعوبة إصابتهم وغزارة الدماء التي تسيل من أجسادهم، سهير كانت مصابة بحروق وكسور، ويوسف إصابات متفرقة في جسده.

“كان المشهد مفزعًا، ولا أجد كلمات تصف شعوري وحالي وقت معرفتي بما حل بأهلي، كنت أبكي بلا وعي، وأتمنى وجود أمي بجانبي، فلم تفارقني في أي لحظة من حياتي، خاصة عند مرضي، وولادتي القيصرية، وتُصر على التواجد معي في غرفة العمليات، لتحفني بالدعوات والرضى، “أخذوا الحنونة، والله أخذوها مني، حسبي الله ونعم الوكيل”، تقول سهير.

تتابع تفاصيل مشهد الموت: “كتب الله لي البقاء والبدء في رحلة علاج طويلة بدأت بمستشفى الشفاء بمدينة غزة، توقفت بعدما حاصر الاحتلال المستشفى، وأجبر المرضى والنازحين الذين لجأوا إليه بحثًا على الأمان على التوجه نحو الجنوب، انتقلت بسيارة الإسعاف إلى مستشفى ناصر الطبي في مدينة خان يونس جنوب القطاع الذي زعم الاحتلال أنه آمن”.

لم يكن المستشفى آمنًا، فاضطرت سهير للنزوح مرة أخرى بعدما طلب جيش الاحتلال إخلاء المكان، وبدأ باستهداف بوابته والمنطقة المحيطة به، حينها توجّهت تحت زخات الرصاص ونيران المدفعية إلى منزل أحد الأقارب في رفح جنوب القطاع، بانتظار تحويلة طبية للعلاج في قطر لإجراء عمليات لوجهها الذي تشوّه تمامًا نتيجة الحروق، وتلتحق بأبنائها يوسف ومحمد الذين سبقوها هناك.

ويتناقض ما تعرضت له عائلة سهير، مع اتفاقية جنيف الرابعة الخاصة بحماية المدنيين وقت الحرب، والتي تحظر الهجوم على المستشفيات والمرافق الصحية، كما تحظر استهداف المدنيين والتهجير القسري لهم.

تتذكر بألمٍ طفلها أشرف ذو العامين، وهي تُقلب بين الصور والفيديوهات التي كانت تلتقطها له منذ اللحظة الأولى لولادته، أثناء لعبه، ضحكه، أكله، حَبْوِه، ومشيه، امتزجت كلماتها مع دموعها التي حجبت صوتها.

تقول: “كنت أنتظر قدومه بفارغ الصبر، وأعدّ الدقائق حتى أحضنه، وأشم ريحته، فقد رُزقت به بعد طول انتظار ففارق العمر بينه وبين محمد13 عامًا، كان شوقي له كبيرًا وكأنني لم أنجب قبله، منذ علمت بحملي صنعت له ملابس بخيوط الكروشيه، وصممت غرفة نومه، وقررت تغيير فرش بيتي ابتهاجًا بقدومه، أشرف ملأ حياتي سعادة، لكنه استشهد في حضن والدتي التي أحبّها مثلما أحبّته وكأنه حفيدها الأول”.

بدت في حيرة من أمرها وهي تتمتم “: أتذكر مين ولا مين، كنا جميعًا في نفس البيت لكن ربنا اختارهم جميعًا شهداء، فراقهم صعب كتير، والحياة بدونهم مالها طعم، الجرح في قلبي، قلبي ينزف دمًا”، ثم تمتمت بالدعوات بالرحمة لهم.

كانت سهير شاهدةً على مجزرة نجت منها مع اثنين من أبنائها، بينما شُطبت عائلات دون أن يبقَ من يُخبر عما حدث، بعد أيام من مقابلتها تمكّنت من الالتحاق بابنيها في قطر لمتابعة العلاج، لكنها سبق وقالت: “لن تمحو الأيام من ذاكرتي تفاصيل المجزرة”.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى