أم كريم وحدها في مواجهة الحرب والإعاقة والإصابة

أم كريم وحدها في مواجهة الحرب والإعاقة والإصابة

النصيرات- سالي الغوطي:

في خيمةٍ داكنة، وعلى سريرٍ بدائيٍ بسيط، تجلس السيدة تماني أبو مصطفى (45 عامًا) شاحبة الوجه تضع يدها على خدِها بحزن، ترتدي ثيابًا حالكةَ السواد، حتى بدت وكأنها أكبر من عمرِها، يكاد الظلام يبتلع خيمتها التي لا تتجاوز ثلاثة أمتار، وعلى يمينِها طفلها كأنه النور الوحيد في هذه العتمة.

“أريد أن تنتهي الحرب وتتوقف معاناتي”، تقول تماني التي طُلقت منذ 6 سنوات، وبقيت مع طفلها كريم (13 عامًا)، تعيش وحدها، وتتألم وحدها، خاصة أنها تعاني من إعاقة حركية منذ ولادتها بسبب خطأ طبي، وها هي تتجرع آلام الوِحدة في ظلِ ظروف حرب تعرّضت خلالها لإصابة قاسية.

كانت تنامي تعيش شرق محافظة خانيونس جنوب قطاع غزة حتى اندلعت الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة يوم 7 أكتوبر 2023م، ظلّت في بيتها حتى ديسمبر من ذلك العام، حين اجتاحت قوات الاحتلال المدينة، وبدأت معاناة النزوح.

تقول تماني بلهجةٍ يائسة: “نزوح وفقر وتشرّد، وصولًا لإصابتي بشظايا في الصدر والرئة بسبب صاروخ أطلقه الاحتلال في مارس 2025م، على مركز إيواء الرازي بمخيم النصيرات وسط قطاع غزة، حيث أقيم مع طفلي”.

يوم 24 مارس 2025م، في أواخر شهر رمضان، كانت تماني تعدّ طعام الإفطار، وتنتظر كريم ليأتي لمساعدتها، إلا أن صاروخًا إسرائيليًا كان أسرع، فسقطت سريعًا على الأرض.

تقول تماني: “وجدت نفسي نائمةً على الأرض لا أشعر بالإصابة، ظننت أنني متّ، مرّ شريط حياتي أمامي في لحظة، وتوقفت عند صورة كريم، ثم استيقظت بعدها لأجد نفسي في المستشفى، وليس معي إلا كريم”.

تساءلت تماني كيف لطفلها أن يأخذ دور الكبار والجميع ينادونه مرافق المصابة، تدرك أنه النور الذي يضيء حياتها، لكنه ما زال صغيرًا.

تلتقط كيسًا بلاستيكيًا أسود اللون، باحثة عن أيِ نوعٍ من المسكّنات العلاجية دون جدوى، فبعض العلاجات غير قادرة على شرائها، تقول:” أجبروني على مغادرة المستشفى بعد ستة أيامٍ فقط بسبب كثرة أعداد المصابين، والعودة إلى جحيم الخيمة التي لم تساعدني على التنفس، لأتألم بصمتٍ وحيدة دون مساعدة أحد”.

يختنق صوتها وهي تواصل: “أحاول إبعاد كريم عني بعض الوقت، أطلب منه الذهاب للعب أو إحضار بعض الأشياء، كي أستطيع البكاء بصوتٍ مرتفع من شدة الألم، لا أريده أن يراني ضعيفة أموت كل دقيقة من شدّة الألم”.

وفقًا لاتفاقية الأمم المتحدة لحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة التي صادقت عليها دولة الاحتلال الإسرائيلي عام 2012م، فإن على الدول الأعضاء اتخاذ كافة التدابير الممكنة لضمان حماية وسلامة الأشخاص ذوي الإعاقة الذين يوجدون في حالات تتسم بالخطورة، بما في ذلك حالات النزاع المسلح.

تستذكر أم كريم أول ليلة في الحرب، حين بلغهم أمر إخلاء المنطقة التي تسكنها غرب مدينة خانيونس، حاولت الإسراع في الهرب لكن إعاقتها الحركية لم تساعدها، خرجت من البيت لتجد المنطقة خالية من الناس، وصوت الأحزمة النارية يقترب، تركت حقائبها وهربت مع طفلها إلى مركز إيواء (مدرسة).

تضغط عيناها في محاولةٍ لإخفاء ألمها وهي تكمل: “مكثت في المدرسة ثلاثة شهور، لم أتواصل مع أحد، علمت بمحاصرة أهلي في مستشفى ناصر في خانيونس، فنزحت إلى مدينة رفح جنوب قطاع غزة، بعد أوامرَ إخلاءٍ جديدة”.

مكثت السيدة مدّة في ديوان إحدى عائلات مدينة رفح، إلى أن جاء يوم تعرضت فيه المدينة لقصفٍ عنيف، فهرب الجميع إلى مركزِ إيواءٍ في النصيرات وسط قطاع غزة، “نمنا في ساحة المدرسة، لا مكان لنا سوى غرفة الموتور التي أصبحت بيتي لأشهر حتى استطعت توفير خيمة”، تقول تماني.

داخل مركز الإيواء (المدرسة)، خاضت أم كريم نضالًا جديدًا مع الحياة، بدأت بصنع الحلوى من موادٍ تتوافر مكوناتها في السوق، مثل الحلقوم والعوامة، وبعض مستحضرات العناية بالبشرة، فقد عملت سابقًا في إحدى الجمعيات ولديها تجربة في هذا المجال قبل أن تتعرض للفصل التعسفي.

تواصل الحديث: “مصدر قلقي الوحيد هو طفلي كريم، أريد أن تتوقف الحرب وأن أعيش من أجله، حب الأم لا يضاهيه حب، فهو الأمان، ولن يعوضه عنّي أحد”.

لم تكتمل صورة المعاناة على تماني التي ما زالت تعاني من آلام الإصابة، فقد رفعت يدها الممتلئة باللون الأسود بسبب إشعال النار، وتشير إلى كرسيها المتحرّك الذي أصبح أشبه بـ(الخردة) بسبب النزوح المتكرر في طرقاتٍ وعرة، ثم أخرجت طرفًا صناعيًا كان يساعدها على الحركة، وبفعل الحرب أصبح كبيرًا على جسدها الضعيف.

تعلّق: “كان الكرسي المتحرك يساعدني في الذهاب إلى العيادة الطبية للحصول على العلاج، والانتظار في طوابير الماء وطابور المخبز، اليوم لا أقوى على ذلك، فأصبحت مسؤولية كريم، وبعض الأوقات تختفي هذه الأشياء من خيمتي”.

تتنهد وتختم: “الناس لا يحصلون على خصوصية في الخيام، فما بالكم بامرأة من ذوات الإعاقة، ووحدي، الخصوصية شبه معدومة، أشعر أن الجميع يراقبني، لا يمكنني استخدام دورات المياه العامة، أحاول استخدام أشياء بدائية تناسب قدرتي الجسدية”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى