النفايات… موت بطيء يحاصر خيام النازحين

النفايات… موت بطيء يحاصر خيام النازحين

 

غزة- نغم كراجة:

“لم أعد أُفرّق بين رائحة الموت والقمامة.. كلتاهما تحاصرني”.

بهذه العبارة المتقطعة، بدأت الأربعينية رغدة خلف النازحة من حي التفاح، حديثها وهي تحدّق في أكوام النفايات الملاصِقة لخيمتِها غرب مدينة غزة، حيث نصبتها قرب مكبٍ عشوائي بعدما ضاقت بها الأرض ولم تجد مأوى في مراكز الإيواء.

ترفع طرف غطاء خيمتها المتهالك لتشير إلى الجهة الأخرى قائلة: “نعيش هنا منذ أكثر من شهر.. القوارض تمرّ من بيننا، والقطط الضالة تعيش معنا، أما الروائح فلم تعد تفارق ملابسنا ولا أطعمتنا”.

يرتجف صوتها وهي تتذكر ابنتها نور (18 عامًا)، التي أُصيبت بنزلةٍ معويةٍ حادة بعد أيامٍ من ملاعبتها لقطةٍ تجوّلت بين أكوام القمامة المجاورة: “فجأة بدأت تتقيأ، شحب لون وجهها، وانهارت قواها بالكامل..لم أكن أعلم أن اقترابها من المكب قد يكون سببًا في مرضها، إلى أن أكد لي الطبيب في النقطة الطبية أن الطعام الملوث والطهي بالقرب من المكب هو السبب، وقد يكون تلامسها مع الحيوانات الضالة زاد الطين بلّة”.

وفي ظل هذه الفوضى البيئية التي تلف خيام النزوح، لا تملك رغدة سوى ترقّب الحال بقلق على ابنتها نور، وقد أخبرها الطبيب بأن النزلة المعوية التي أصابتها ستبقى متكررة طالما بقيت محاطة بهذا التلوث، فلا علاج ناجع في ظل غياب النظافة والماء النقي والهواء السليم.

منذ شن الاحتلال الإسرائيلي حرب إبادة على قطاع غزة في 7 أكتوبر 2023م، أجبر نحو مليوني فلسطينية وفلسطيني على النزوح إلى مناطق ضيقة غرب القطاع، ما تسبب في تكدس الشوارع بخيام النازحين التي أقيم جزءًا كبيرًا منها قرب مكبّات النفايات العشوائية التي تملأ مدن القطاع، بسبب عدم قدرة البلديات على ترحيل النفايات إلى المكبّات الرسمية الموجودة على الحدود الشرقية لقطاع غزة.

على الجانب الآخر من المدينة، تقف مها المغربي، وهي تمسح جبينها بكمّ قميصها أثناء عملها في تنظيف إحدى مدارس الإيواء، لتقول بتنهيدة ثقيلة: “لو كان لدي خيار آخر لما اخترت العمل وسط هذا الجبل من النفايات، لكنني أمّ.. وعلينا أن نحيا، فزوجي مصاب في بطنه بعدما حاول الحصول على كيسِ دقيقٍ من إحدى الشاحنات”.

تشير إلى حاوية قمامة ضخمة تلاصق المرحاض العام في المدرسة وتتابع: “كل صباح أبدأ يومي برفع أكوام القذارة، أختنق من الرائحة وأشعر بالدوار، وحين يحرقون الجبل المتراكم بجوارنا لا يسعني إلا وضع كمامة لا تمنع الصداع ولا تحميني من المرض”.

تتوقف للحظة ثم تمسك بيد طفلتها الوحيدة سهام (10 سنوات)، التي ترافقها خوفًا عليها من البقاء وحيدة في منزلها المتضرر، وتقول: “بدأت تظهر على جسدها حبوب حمراء صغيرة، ظننتها حرارة أو تحسس لكن الحكيمة في العيادة أشارت لاحتمالية إصابتها بالجدري، فالأطفال هنا يلهون فوق النفايات ولا أحد قادر على ضبطهم”.

تقول المختصة البيئية في الإغاثة الزراعية، سها أبو شعبان، إن إدارة النفايات الصلبة تعاني من شلل تام في منظومة جمع النفايات، ولم تعد قادرة إلا على جمع 20% فقط من التكدسات اليومية، بسبب استهداف طواقمها ونفاد الوقود.

وتابعت إن مساحة قطاع غزة 365 كيلومترًا، تقلّصت فعليًا إلى 10% يتكدس فيها النازحون، وتحوّلت المكبّات العشوائية إلى بؤرٍ لتفشّي الأمراض والأوبئة، مثل الأمراض المعوية، التهابات جلدية، تسمم غذائي، التهابات تنفسية ناتجة عن استنشاق الغازات السامة، أمراض سرطانية نتيجة التماس مع عصارة النفايات خاصة حين تختلط بمياه التربة أو الشرب.

وتحدثت أبو شعبان عن النفايات الطبية من مخلّفات المستشفيات والعيادات، بما تحتويه من مواد ملوِثة، تتكدس في محيط المستشفيات والخيام، في ظل غياب آليات آمنة لجمعها، وزيادة احتمالية نقل العدوى منها.

تكمل: “مع دخول فصل الصيف، تزدد وتيرة التحلل داخل المكبّات، ما يؤدي لإطلاق غاز الميثان القابل للاشتعال، وينذر بكارثة بيئية وسط عجزٍ تام عن السيطرة”.

وتشير إلى أن نقل النفايات إلى المكبات الرسمية مستحيل، في ظل سيطرة الاحتلال على محور نتساريم، ما أجبر الجهات المسؤولة على إنشاء مكبّات عشوائية وصل ارتفاعها لأربعة أمتار، دون أي تصميم هندسي يمنع تسرّب العصارات السامة أو انبعاث الغازات القاتلة.

تضيف: “النساء والأطفال وكبار السن هم الفئات الأكثر تضررًا من واقع التلوث البيئي، فالأطفال يلعبون على تماس مباشر مع المكبات، بينما تتحمّل المرأة عبء النظافة والطهي ورعاية الأسرة وسط محيط مليء بالميكروبات دون حماية، وتحت وطأة الضغوط النفسية القاسية ونقص مستلزمات النظافة الشخصية، يُضعف وعي النساء بأهمية الممارسات الصحية في أماكن النزوح، مما يعرّضهن لمخاطر صحية جسيمة”.

ولفتت إلى أن تعرّض النساء المستمر لملوثات النفايات يشكل تهديدًا لصحتهن الإنجابية في ظل غياب أي تدخل طبي أو بيئي فاعل”، مشددة على أن الوضع لن يتغير ما لم تُتخذ إجراءات طارئة، لتوفير آليات آمنة لجمع القمامة والتنسيق مع المنظمات الدولية من أجل فتح المعابر والسماح بإدخال المعدّات الحيوية.

ويعد ما يحدث انتهاك لاتفاقية جنيف الرابعة، بشأن حماية المدنيين وقت الحرب، خاصة المادة (56) التي نصت على وجوب اتخاذ الإجراءات الوقائية الضرورية لمكافحة انتشار الأمراض المعدية والأوبئة، كما تُلزم المادة (59) سلطات الاحتلال بالسماح بإيصال المساعدات الإنسانية بما فيها الأدوية والمواد الطبية والنظافة.

وتختم سها: “الوضع كارثي بكل المقاييس.. نعيش في قنبلة بيئية موقوتة، إن لم تتدخل الجهات الدولية فورًا، سنشهد موجة وفيات جماعية بسبب التلوث والمجاعة وانعدام الرعاية الصحية”.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى