غزة تختنق بدخان الحرب …الخبز التالف بديلًا عن الحطب

غزة تختنق بدخان الحرب …الخبز التالف بديلًا عن الحطب

غزة- نغم كراجة:

“لم نعد نُشعل النار لطهي الطعام فقط؛ بل لإبقاء حياتِنا مشتعلة في وجه العجز والعدم”.

بصوتٍ تغلُبه الحسرة، وتكسوه نبرةُ قهر، بدأت الثلاثينية ألفت المتربيعي حديثها، ملخّصةً حالها خلال الحرب التي شنها الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة، منذ 7 أكتوبر 2023م، أجبر منذ أسبوعها الأول سكّان شمال قطاع غزة على النزوح إلى جنوبه، كانت ألفت وعائلتها من بين النازحين.

لم تتخيل ألفت أن عودتها إلى مدينة غزة، بعد نزوح دام 15 شهرًا جنوب القطاع، ستثقل كاهلها أكثر مما مضى، فالهدنة التي دخلت حيز التنفيذ يوم 19 يناير 2025م، لم تحمل معها سوى مزيدٍ من الحرمان، فمنذ منتصف فبراير، لم تتلقَ أسرتها أي مساعدة إغاثية، ولم يتحصّلوا على حصَتهم من غاز الطهي، ما اضطرها إلى الطهي على الحطب، الذي لم يلبث أن صار عبئًا ماليًا ثقيلًا.

بصوتٍ واهن تروي ألفت وهي تراقب بقايا خبزٍ تجففه تحت أشعة الشمس أمام خيمتها: “منذ عُدنا من الجنوب لم أحصل على حصةِ غازٍ واحدة، كان الوضع هناك صعبًا، نقف طوابير لاستلام الغاز، ولكن أدركت أن الشمال أكثر قسوة، اضطررت للطهي على الحطب، لكنه أصبح نادرًا وغاليًا جدًا، وبعد عودة الحرب في مارس، تجاوز سعر الكيلو منه أربعة شواقل، ونحن بحاجة إلى ثلاثة كيلوات يوميًا، زوجي عاطل عن العمل، فماذا نفعل؟

بابتسامةٍ مجروحة، تتذكر ابتكار جارتها التي استخدمت الخبز التالف بدلًا من الحطب، تتابع: “في لحظة عجزٍ رأيت جارتي تجمع الخبز التالف وتضعه في الشمس، سألتها فقالت إنها توقد به النار، ففعلت مثلها، جمعت خبزًا من كلِ مكان، حتى من أقاربي في المخيمات المجاورة، أوكلت لطفلتي أميرة (12 عامًا) مهمة تقليبه في الشمس، وطلبت من محمد (10 سنوات)، أن يبحث عن أي خبزٍ غير صالح للأكل”.

تتابع بعد تنهيدة طويلة: “صرنا نصنع وجبات بديلة، اللانشون بديلًا عن الدجاج، البازيلاء بدل الفول، لم نتخيل يومًا أن نصل لمرحلة أن نحيا على البدائل، ونكتم جوعنا بالأمل”.

في خيمةٍ مجاورة، تجلس النازحة ياسمين أبو برايو (35 عامًا) قرب خيمتها تنتظر حصّتها من أرز التكية، التي بالكاد تصلح للأكل، تروي بأسى: “أحيانًا لا يكون الطعام ناضجًا، لكن لا وقت للترف، نأكله كما هو أو نتركه يفسد، نحن لا نملك رفاهية خسارته”.

نزحت ياسمين من بيتها في منطقة مشروع بيت لاهيا إلى وسط مدينة غزة، تعود بذاكرتها إلى أسابيعٍ مضت، قبل أن تُغلق المعابر، ويختفي الدقيق من الأسواق، حين كان الخبز يُوزّع على المخيمات من قِبل الجمعيات الخيرية.

تروي: “حالنا مثل باقي الجيران في المخيم، نجمع الخبز اليابس ونجففه في الشمس، لم تكن فكرة عبثية، بل وسيلة لتخفيف تكاليف يومية لم نعد قادرين على تحمّلها، كان منظر الخبز المكدّس أمام خيمتي أشبه بجبلٍ صغير، رأيت فيه طوق نجاة”.

تعمل ياسمين يوميًا داخل الخيمة التعليمية، تعلّم الأطفال بما توفر من أدوات بسيطة، وبعد انتهاء الحصص، تبدأ مهنتها الثانية مع الحياة: “أغلق دفتر التعليم، وأفتح صفحة جديدة من التعب.. أبحث عن الخبز التالف، أُقلّبه تحت الشمس، وأخزّنه ليومٍ لا أجد فيه شيئًا أُشعل به النار.. هنا في غزة، نحن لا نعيش… نحن فقط نحاول ألا نموت”.

 

ومع استمرار انقطاع الموارد، لجأت ياسمين إلى استخدام ما تبقى من الدقيق (المسوّس)، رغم أنه نادرًا ما تجرؤ على استخدامه، تقول بصوت خافت: “حتى الدقيق المسوّس، لم أعد أرمِه.. أحيانًا عندما تضطر الظروف، أستخدمه لإشعال النار لكن الناس هنا يفضلون عجنه وخبزه بدلًا من إشعاله أو رميه؛ لأن الأزمة الراهنة وصلت حد لا يُطاق”.

الطبيب عبدالله حسب الله، رئيس قسم الأمراض الصدرية في مستشفى الرنتيسي، يطلق تحذيرًا بالغ الخطورة حول تفاقم ظاهرة استخدام وسائل إشعال النار في قطاع غزة، سواء باستخدام الخبز أو البلاستيك أو المواد البلاستيكية.

يقول: “ما يجري اليوم من استخدام مفرط للحطب والمواد البلاستيكية في طهي الطعام أو التدفئة يؤدي إلى نتائج كارثية على الجهاز التنفسي، لا سيما بين الأطفال والنساء وكبار السن، استنشاق دخان البلاستيك المحترق يسبب التهابات شديدة في الشعب الهوائية، وقد يؤدي إلى الإصابة بالربو الشعبي المزمن، ناهيك عن اعتماد المريض لاحقًا على البخاخات وموسّعات الشعب مدى الحياة.

ويعدّ ما يتعرّض له سكّان قطاع غزة، انتهاك لاتفاقية جنيف الرابعة التي تنص على ضرورة حماية المدنيين وقت النزاع المسلح، خاصة المادة (55) التي تُلزم القوة القائمة بالاحتلال بضمان تزويد السكان المدنيين بالمواد الأساسية، وهو ما لم ينفذه في قطاع غزة الذي يحتاج إلى توفير المستلزمات الحيوية ومنها الغذاء والوقود، بل إنه تعمد خنق الحياة اليومية للناس.

ويتابع: “الوضع كارثي، ولا حلّ سوى فتح المعابر فورًا والسماح بدخول غاز الطهي المنزلي بصورةٍ عاجلة ومنتظمة، نحن بحاجة لخطّة صحية وإنسانية متكاملة، تبدأ بتأمين الوقود النظيف للسكان، وتنتهي بوقف مسلسل القتل البطيء الذي يتعرضون له يوميًا دون أن يسمع أحدٌ أنينهم”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى