من مصر تخوض معركة البقاء الحرب تعيد سرطان (رندة) إلى النقطة صفر
من مصر تخوض معركة البقاء
الحرب تعيد سرطان (رندة) إلى النقطة صفر
ترنيم خاطر:
في غرفةٍ بمستشفى أحمد ماهر التعليمي بالقاهرة، حيثُ تعجُ الأجواء برائحة الأدوية، تجلس الفلسطينية رندة العرجا (38 عامًا) على سريرٍ طبي، واضعةً يدها على خدِّها فقد حملتها الهموم إلى خارج قطاع غزة المثقل بأوجاع الحرب، باحثةً عن الحياة بعدما تقاذفتها أمواج المعاناة من كل جانب!
رندة: المرض ما برحم زي ما الحرب ما بترحم
تطلق السيدة تنهيدة خرجت من بين ضلوعها وهي تقول: “منذ بداية الحرب وأنا أعيش المعاناة التي صارت جزءًا من حياتي، منذ سنوات استوطن السرطان جسدي وأحاول أن أكون قوية من أجل أولادي، المرض ما برحم زي ما الحرب ما بترحم”.
قبل تسع سنوات، اكتشفت رندة إصابتها بسرطان الثدي الذي تم استئصاله في مستشفى المقاصد بمدينة القدس المحتلة، وبعدها حصلت على جلسات الكيماوي وخضعت للبروتوكول العلاجي المعتمد، وكانت أوضاعها مطمئِنة حين تابعت بمستشفى الصداقة التركي الفلسطيني الوحيد المخصص لعلاج مرضى السرطان في قطاع غزة، استمر الحال هكذا حتى اندلعت الحرب.
يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023م، أعلنت إسرائيل الحرب على قطاع غزة، وبدأت باستهداف المنازل فوق رؤوس ساكنيها، واضطر مئات آلاف الفلسطينيين إلى النزوحِ من منازلهم وأماكن سكنهم.
تقول رندة: “حين اندلعت الحرب، اضطررت للفرار مع أسرتي من منزلنا المجاور لمعبر رفح الحدودي جنوب قطاع غزة، فالتواجد خطير مع تكرار مشاهد قصف الطائرات الإسرائيلية للمنطقة، واستهدافها بالقذائف المدفعية”.
لم تكن فكرة الانتقال وترك المنزل سهلةً، فقد خرجت رندة ببعض الأشياء البسيطة من مأكل وملبس، فكل ما في المنزل من مفروشات وأجهزة ومقتنيات وفّرتها بشقّ الأنفس، وكثيرًا ما حرمت نفسها مما تشتهي بغرض تأسيس البيت حجرًا حجرًا، وقطعة قطعة، تقول: “رغم ذلك فإن البحث عن النجاة كان مسيطرًا على عقلي عندما بات كل شيء في غزة من شمالها إلى جنوبها مستهدفًا”.
تتنهد وهي تكمل: “عشتُ في بيت العائلة لأكثر من عشرين عامًا، حتى فُرجت واعتقدت أن أبواب السعادة فتحت، فقد تمكّنت من شراء بيت يضمني أنا وأسرتي لكن السعادة سرعان ما سُرقت مني”.
انتقلت رندة وعائلتها إلى منزل أحد الأقارب ثم إلى مركز إيواء (مدرسة تابعة لوكالة الغوث فيها آلاف النازحين) في مدينة رفح، وهناك بدأت أوضاعها الصحية تتراجع.
تغمض عيناها بقوة من شدّة الألم وتشرح: “أصبحتُ غير قادرةٍ على الحركة ولا المشي أو الوقوف، كنت أشعر دومًا بالدوار والصداع والهبوط الحاد في ضغط الدم، خسرت الكثير من وزني حتى أصبحت لا أتجاوز 50 كيلو، وكل ذلك انعكس على قدرتي على القيام بالمهام الجديدة مثل الخَبز والطهي وتسخين الماء على النار وغسيل الملابس يدويًا، في ظل عدم توفّر غاز الطهي ولا الكهرباء، اعتقدت حينها أن كل هذه الأعراض بسبب الظروف القاسية التي أعيشها وسوء التغذية”.
رندة: مسكت حالي لما عرفت أن السرطان رجع تاني
مع استمرار الأعراض توجهت رندة إلى المستشفى وأجرت العديد من الفحوصات حيث كشفت التحاليل أن نسبة الهيموجلوبين في الدم (5)، وهو ما دفع الأطباء إلى إجراء المزيد من الفحوصات، وكانت الصدمة حين أظهرت أن السرطان عاد ووصل إلى الكبد.
تقول: “ما مسكت حالي لما عرفت أن السرطان رجع تاني، انهرت بالبكاء ولكن سرعان ما حمدت الله على الابتلاء”.
تتابع: “كنت أقيم في مركز إيواء يفتقر لأدنى مقوّمات الحياة الكريمة، فلا ماء صالح للشرب ولا طعام كافٍ ولا أسرّة للراحة، حتى دورات المياه غير نظيفة والأمراض انتشرت بسبب الاكتظاظ وقلة النظافة، فقد كان المكان مكتظًا بالعائلات التي فرّت من جحيم القصف، كما أصبحت مناعتي ضعيفة بسبب المرض وقلة الرعاية الطبية”.
بدأت رندة التفكير في كيف يمكنها الحصول على خدمات طبية في ظل العدوان الإسرائيلي الذي دمّر معظم المستشفيات، وقتل نحو 500 فردًا من الطواقم الطبية، ومنع دخول الأدوية والعلاج ما تسبب في حرمان نحو 350 ألفًا من مرضى الأمراض المزمنة في قطاع غزة من تلقي العلاج، في تناقض مع نصوص المادتين (12) و(18) من اتفاقية جنيف الرابعة الخاصة بحماية المدنيين وقت الحرب.
وتنصُ المادتان على حق المرضى والجرحى في الحصول على الرعاية الطبية دون تمييز على أساس الدين أو الجنسية أو العرق، وأن يُعطوا العناية اللازمة لشفائهم، وتوفير الأدوية والخدمات الطبية في المناطق المتضررة، مع ضمان عدم تأخير تقديم العلاج لهم، وأن يتم توفير الحماية للمستشفيات والطواقم الطبية وألا يتم التعرض لهم.
تتابع: “أعيشُ أوضاعًا مادية قاسية، زوجي كان يعمل في مجال الدهان، وحاليًا لا يعمل، وأحتاج أحيانًا لبعض الأدوية التي لا تتوفر في المستشفيات وأضطر للبحث عنها في الصيدليات ودفع مبالغ باهظة للحصول عليها، وكنت في كل لحظة أدعو الله أن أحصل على تحويلةٍ طبية خارج قطاع غزة”.
بعد طولِ انتظار حصلت رندة على تحويلةٍ طبية للعلاج في مصر، وهي فرصة لم يحصل عليها سوى قليل من المرضى والجرحى، فقد بلغ مرضى السرطان في القطاع 10 آلاف حالة مسجلة، منهم 2000 مريضٍ تحت العلاج، و8000 تحت المتابعة والفحص، سافرت رندة وتركت خلفها جزءًا من قلبها، حيث بقي زوجها واثنان من أولادِها يخوضان معركة مع الموت اليومي ليرافقها في رحلتها ثلاثة من أبنائها ووالدتها، انتقلت من قطاع غزة واستقرت في مستشفى أحمد ماهر بالقاهرة.
بحزن الأيام الطويلة التي تعيشها رندة منذ بداية الحرب تقول، كل لحظة في المستشفى تمرُّ وكأنها دهرًا، مع كل تحليل دم وكل تقرير طبي، تتزايد المخاوف.
خيّم السكون على المكان حين صمتت رندة وسرحت ثم عادت لتكمل: “للأسف اكتشف الأطباء كتلة على الكبد، والسرطان انتشر في كل جسدي الهزيل بسبب الحرب”، كل ذلك وما زالت السيدة تفكّر في أبنائها الذين بقوا في غزة، وأبنائها الذين اصطحبتهم معها ومسؤوليتها تجاههم فهي رغم مرضها تقوم بدور الأب والأم، فما المصير الذي ينتظرهم إذا انهارت.
أم إلياس: تعبنا من الحرب وكل اشي فينا استوى.
في ذات غرفة رندة، تجلس مجموعة من الممرضات مع أم إلياس (59 عامًا)، والدة رندة التي لا تكفُّ عن البكاء فهي الأخرى تمزّق قلبها الذي يعتصره الخوف على ابنتها التي وصل السرطان إلى كبدها، وعلى زوجها وباقي بناتها الذين بقوا جميعًا في قطاع غزة.
تقول: “أحاول التواصل دومًا مع زوجي وأولادي في غزة للاطمئنان عليهم، لكن مع عدم وجود انترنت في مركز الإيواء، يضطرون للذهاب إلى أماكن أخرى رغم الخطر المحيط بهم من كل مكان، تمرُّ أيام لا أعرف عنهم شيئًا، وأقضي وقتي في متابعة الأخبار والبحث عن أسماء الشهداء”، تزفر بشدة وتقول: “تعبنا من الحرب وكل اشي فينا استوى”.
تواصل: “عامٌ على الحرب، حياتنا كلها خوف وعدم استقرار وغياب الأمان، واللي بيزيد وجعي على أسرتي إني بعيدة عنهم، لما كنت بغزة كنت ادعي نعيش سوا او نموت سوا، لكن أنا الآن بعيدة عنهم، وشعور إن معبر رفح مغلق من 4 شهور وأن ما بقدر أرجع غزة قاسي وتاعبني بزيادة”.
تكمل: “بنتي الثانية ولدت بالحرب وما كنت جنبها زي دايما، عمري ما تركت بناتي فترة الولادة في الظروف العادية كيف في الحرب، لا مكان للراحة ولا ملابس لها ولا للمولود، ولا طعام جيد أو شراب، بالي مشغول على بنتي كيف دبرت حالها في ظروف ما فيها مقومات للحياة”.
“رندة” واحدة من آلاف المرضى الذين يعانون لعدم قدرتهم على تلقي العلاج المناسب في الوقت المناسب في ظل الحرب، فهي ليست مجرد حكاية عن المرض أو الحرب، بل أنها قصة أم تُحاول بكل ما أوتيت من قوة أن تظل صامدة، وأن تظل الحامية والراعية لأولادها، وتقدم الحنان والدعم لهم في هذه الأوقات العصيبة، وأن تحافظ على قوتها، وهي التي تمزقت بين المرض والحرب ورعاية من بقي معها في المستشفى وبين من تركتهم في غزة.