رحلت زنبقة البيت مريم … وكذلك جنينها
غزة- هيا بشبش:
“سبع ساعات ونحن ننتظر سرير عناية مركزة فارغ فيما تبقّى من مشافي قطاع غزة، لو نُقلت ابنتي مباشرة لكانت مريم بيننا”!
هكذا لخّصت ريم عقيلان ما جرى مع ابنتها مريم (20 عامًا)، يوم 2 يوليو 2025م، بعدما أجهضت جنينها بسبب قصفٍ مجاورٍ لمنزلها بمدينة غزة، نُقلت على إثره إلى مستشفى الحلو الدولي، واحتاجت لغرفة عناية فائقة، لكن بسبب تدهور وضع المنظومة الصحية في قطاع غزة بعد شن الاحتلال الإسرائيلي حربًا على قطاع غزة منذ 7 أكتوبر 2023م، توفت مريم.
تتحدث والدة مريم (48 عامًا) عن تفاصيل اللحظات الأخيرة لابنتها وهي تجلس في الركن الذي كانت تفضّله مريم بمنزلها وهي تقول: “بعد رحيلها لا يجرؤ أحد على الجلوس هنا، وهي في نزاعها الأخير مع الموت أوصت زوجها ألا ينسانا، رحلت مدللتي”.
تكمل: “كانت ابنتي الوحيدة على أربع أولاد، فقدت أخيها في9 مارس 2024م، في شمال القطاع مع والده بعدما أصروا على البقاء في المنزل، قُصف منزل بالقرب منه واستشهد هو على الفور، لم أودعه، لم أحفظ لحظاته الأخيرة “.
تقطع حديثها فجأة وهي تتمتم بأمنية فات أوانها: “ليتنا لم نعد من جنوب قطاع غزة، نزحنا أنا ومريم وباقي الأسرة في نوفمبر 2023م، بعدما اشتدّ القصف على منطقتنا”.
نزحت العائلة بداية من بيتهم في مخيم الشاطئ غرب مدينة غزة إلى خيمةٍ في مخيم النصيرات وسط قطاع غزة، وتنقّلت بعدها أربع مرات وصولًا إلى منطقة أصداء غرب مدينة خانيونس جنوب القطاع، حتى دخول الهدنة حيز التنفيذ في يناير 2025م، حيث عادوا إلى بيتهم بغزة.
لأول مرة منذ ولادتها تبعد مريم عن حضن أبيها قبل أن يخطفها الموت، تضيف أمها :”هي أقرب لوالدها، أميرته ومدللته، تأجل فرحها بسبب الحرب، وبما أن خطيبها نزح وأسرته إلى خانيونس قررا الزواج في مارس 2024م”.
“بثوبٍ أبيض مطرز بدت كالحورية”، تصف والدتها وهي تشير إلى فيديو زفاف مريم عبر هاتفها، وتكمل: “هذا يوم فرحها، كانت كالملاك، لم أشهد أحد بجمالها، كفراشة تتطاير، رافقنا والدها بمكالمة هاتفية”.
هناك حملت مريم بجنينها الأول، كانت فرحةٌ للعائلة التي بدأت تجهيز ملابس الحفيد، لكن الفرح لم يكتمل، فقد أجهضت الشابة في شهرها السادس بسبب اتساع الرحم، وحاجتها (لغرزة) كي تحافظ على جنينها، لكنها ظلّت تأمل بحملٍ آخر.
في يناير 2025م، عادت العائلة ومعهم مريم إلى مدينة غزة، تكمل والدتها: “عادت هي لمنزل زوجها بالقرب منا في مخيم الشاطئ، حملت للمرة الثانية وهذه المرة أجرت (الغرزة) وأخذت جميع التدابير لإنقاذ جنينها، ولم أتوقع أن يرحلا سويًا”.
حاولت مريم تخطّي المجاعة التي يعاني منها قطاع غزة، والاهتمام بصحتها، لكن للحرب مخططات أخرى، يوم الجمعة 27 يونيو 2025م، قصفت الطائرات الحربية الإسرائيلية منزلًا مجاور لبيت مريم، فسقطت مريم على ظهرها، وتوجهت إلى مستشفى الحلو الدولي، لتصدم بخبر (الجنين هالك).
تروي والدتها التفاصيل الأخيرة مع مريم: “وضعوها تحت الملاحظة، تُركت لساعاتٍ تعاني من الألم وحدها، ارتفعت حرارة جسمها الهزيل، صباح اليوم التالي أمر الطبيب المراقب بعملية إجهاض سريعة للجنين الهالك، مات حلمها بطفلها الأول”.
انتهت عملية الإجهاض وما هي إلا ساعات حتى أمر الأطباء بعملية تنظيف للرحم، وتوضح والدتها أن الأطباء طلبوا لها وحدتين من الدم لأن دمها (8.5)، خرجت من العمليات بضغطٍ منخفض، فهمست لوالدتها: “أخبرني الطبيب أنهم أنقذوا حياتي بأعجوبة”، ولم تكن تعلم أنها في نزاعٍ مع الموت، نقلت بعد سبع ساعات إلى مستشفى القدس، حيث لفظت أنفاسها الأخيرة هناك.
توضح والدة مريم أن عملية الإجهاض استغرقت ساعة كاملة على غير المعتاد، وبعدما سحب الجنين في البداية توقفت عملية الاجهاض، فذهبت خالة مريم لتحثّ الممرضات على إتمام العملية، وبعد ساعة عملت ممرضة على استخراج (المشيمة)، وكل هذا بعد مرور يوم كامل على هلاك الجنين.
وتكمل والدتها:” طلب منا الأطباء إحضار وحدتين من الدم بسبب ضعف دم مريم ولأن المستشفى لا يوجد لديه أي امكانات طبية، كان هذا سببًا في تأخر نقل مريم إلى العناية الفائقة، وكذلك بنك الدم كان يعاني من نقص شديد في وحدات الدم أمام ضغط الحالات الحراجة التي تضج بها أسرة المستشفيات، ولم نستطع تحويل مريم حتى توفر سرير بعد سبع ساعات في مستشفى القدس”.
خلال الحرب دمر جيش الاحتلال معزم مستشفيات قطاع غزة، خرج أغلبها عن الخدمة في مخالفة لاتفاقية جنيف الرابعة التي نصت في مادتها (56) أنه من واجب دولة الاحتلال العمل بأقصى ما تسمح به وسائلها على صيانة المنشآت والخدمات الطبية والمستشفيات وكذلك الصحة العامة والشروط الصحية في الأراضي المحتلة.
تختم أو مريم: “هي الحرب، ليتها لم تكن، لكان باستطاعتنا نقل مريم أسرع إلى المستشفى، الحرب سرقت مني مريم وشقيقها، لم بقيت المستشفيات لعاشت مريم”.