يا مريم خذي الكتاب وعلميهم أنك باقية رغم الغياب.!

يا مريم خذي الكتاب وعلميهم أنك باقية رغم الغياب.!

هداية شمعون (*)

لاحقتني الكوابيس لدرجة أني لم أنم ساعة كاملة طيلة الليل، قلبي يتقافز كأنه يغفو على صفيح ساخن يتلظى بالنيران، المدينة بعيدة جدا عني فيزيائيا لكنها تسحقني بقربها من روحي، أنهض وأمشي خطوات معدودة أحدق في الليل المعتم من حولي، أشعر أن بقايا بيتي وتلك المجازر تدور في عقلي، الصمت يبتلعني مرة أخرى فأعود في محاولة للتحايل على الليل، أفيق مبكرا وقد ابتلعت كمية كبيرة من الدموع، غصة تجعل من أنفاسي تضيق، “مريم أبو دقة” الصحفية الجميلة الطيبة قتلت قبل عدة ساعات، بل قبل عدة أيام…! كانت تحمل كاميرتها وتقوم بتصوير الجرحى والمصابين على درج سلم مجمع ناصر الطبي في خان يونس، كان العديد من الصحافيين ورجال الإسعاف يحيطون بها، بعضهم سقط ما بين شهيد وجريح، وأمام كاميرات بالبث المباشر[1]…!

يا مريم لم أبحث عن صورة تجمعنا ولم أبحث عن كلمات ورسائل ومحادثات مخبأة لأعلنها للجميع، ولن أفعل…! كل ما أذكره كل تلك الأوقات التي كنت أراك فيها أو أسمعك تتحدثين بسرعة وبعفوية فيما كنت تبتسمين، بكل لطافة وأدب وبساطة لم أعرف أحد في تلقائيتك، دوما كانت صديقتي منى كلما رأتك وجئت مهرولة لتحدثيها تقول لي: “يالله هادي الصبية ما أطيب قلبها”…! المرة الأخيرة حين كنا في آخر تدريب للرعاية الذاتية للصحافيات في المتحف “الذي تعرفه كل غزة ولم يعد حجر على حجر”…! كنت معنا وبجوارنا، تحددين طريقة جلستنا، والخلفية الزرقاء المموجة بأحرف اللغة العربية خلفنا، كنت بكل عفوية تفصلينا حينا وتبادرين بأن صورا جميلة يجب أن تصوريها لنا…! لا زلنا يا مريم نحتفظ بصورك التي تنطق جمالا وهي بعض من جمال روحك…! كانت عيناك جميلة ترى الجمال ويعز عليك أن تتحول كاميرتك فقط للمآسي والمآتم والدموع والانهيار والدمار…!

كم عانيت وحيدة يا مريم، جريئة وشجاعة لا تعرفين الخوف، لكن انظري إلى صورك الأخيرة لقد أخذت منك الحرب الكثير، ملامحك المتعبة ووجهك الذي بدا أكثر اسمرارا، وعينيك الذابلتين، شيء ما يأخذك من الحياة، بريق يخبو، وأنفاس مثقلة بالهموم، واللوعة والاشتياق…! يعز عليك أن ترى مدينتك وشوارعها وبيوتها وأهلها مكلومين يتوجعون بلا سند ولا يد تطبطب على جراحهم، وحدهم أهل غزة الآن يواجهون القتل كل لحظة، تماما كما كنت وحدك…!

صوروفيديوهات لازالت حية وشاهدة على حياة الاستنزاف والتعب وأهوال القيامة التي عاشتها مريم ونقلتها بكاميرتها وفيديوهاتها القصيرة، تنطلق تنهيدتها في إحدى الفيديوهات تحثها زميلتها على الحديث لكنها كانت بلا قوى، كانت في لحظات قاسية كأنها تودع بتكرار مخيف، ودعت أمها ونعتها بقلب موجوع ومكلوم، وودعت ابنها غيث أحب القلوب إليها كي تنقذه مما عاشته في غزة وكي يعرف حياة طبيعية، ففارقها إلى دولة أخرى فيما ظلت هي تحت الإبادة تجاهد لنقل صوت الأمهات الثكالى، وبكاء الأطفال الفاقدين، والأشلاء المتناثرة حولها، وحلقة الرعب المفزعة لخوفها على عائلتها أبيها وأختها وباقي العائلة التي نجت من القتل وأجبرت على النزوح، “مريم” الصحافية الانسانة التي تبرعت بكليتها لتنقذ والدها من ألم المرض، ليبقى لها أثر منها نابضا في جسد أبيها ولم يعرف أحد بذلك إلا بعد استشهادها..!

قالتها ولازال صوتها يصدح:” أنا الشهيدة التي ستنجو من الحياة وليس من الموت…!” كتبت مريم بكلمات عفوية معبرة عن عمق الألم والمأساة التي تعيشها غزة اليوم:

“كنت هناك…

 وسط الدمار، أتنقل بين الأنين والرجاء..

 الكاميرا على كتفي، وقلبي في كفّي..

 شعرت بالإرهاق، نعم. كان جسدي يصرخ طلبًا للراحة، وعيوني توشك أن تُغلق من شدة التعب، لكن… لم أستطع التوقف”

مريم كانت تنزف ألما لما تشاهده كل يوم في مدينة تعتصرها الحرب، يقتل الرجال والنساء والعائلات في وضح النهار، يموت الأطفال بسوء التغذية، تركض مريم كل صباح ما بين المستشفيات وما بين الخيام، هنالك جنازة لطفل وتلك جنازة لعائلة بأكملها، توثق لحظات الوداع والدموع الشاهقة والصرخات المكبوتة، تلتقط بكاميرتها صرخات لأم ثكلى وأخرى لطفلة تصرخ تريد أبيها أن ينهض من كفنه الأبيض، وأم محتسبة لا تتكلم فقط تمسد شعر ابنها المضرج بدمائه، عانقت مريم آلام الجميع، ووقفت رغم موتها اليومي الصامت، ودعت زميلها في العمل (إبراهيم حجاج) وداعا قاسيا نال منها، وقد بدت كل كتاباتها وصوتها حزينا ذلك الحزن الذي يخلع القلوب، ينطفئ صاحبه فيبدو آخر لا يعرفه ولا يستطيع أن يهدئ الحزن والألم فكتبت:

“فوالله كنت هادئا..

 سندا ورفيقا للدرب والحياة، استشهاد أخي الذي لم تلده أمي، أبو أنس رفيق العمل والدرب والحياة بقصف إسرائيلي بمدينة غزة، اللهم احفظه وأنر قبره كما كان نورا لقلبي وقلب محبيه فهو الآن في ديارك”

لقد رأت وعاشت على مدار ما يقارب السبعمئة يوم كل يوم، كل يوم ركضا خلف الجنازات، والدموع المقهورة، وتلك مفطورة القلب، عاشت حزن الأمهات وتذكرت ابنها غيث في كل مرة لتتلفع بقليل من الأمل علها تراه شابا يافعا ذات يوم، لكنها لم تره ولن تره بعد الآن، إنها في بعد آخر وضعت بزتها الصحافية وخوذتها جانبا رغم أنها قتلت في لحظات وعلى الهواء مع باقي زملائها الصحافيين بينما يوثقون استهدافا في مستشفى ناصر في خان يونس وعلى درجات السلالم العالية وأمام المئات من رواد المستشفى من مرضى ونازحين، لتصيبهم إحدى القذائف الإسرائيلية في مقتل وتستشهد في ذات اللحظة..! هذه مريمتنا الحسناء التي رأيناها جميعا قبل استشهادها بلحظات، هناك كانت كملاك تبتسم وكأنها في وداع حتمي كانت الابتسامة مزروعة على وجهها حتى لو كانت تبكي، هذه مريم هذه غزة…!

في شهر أغسطس الشهر الذي رحلت فيه مريم على الهواء مباشرة، في هذا الشهر نال الانهاك والتعب منها مبلغه فكتبت كلمات مؤلمة كأنما تنتظر دورها في الشهادة، فقد تابعت اغتيال الصحافيين واحدا تلو الآخر، بعضهم أثناء تأدية عمله الصحفي وبعضهم مع عائلاتهم وفي بيوتهم التي غدت مقابر لا خلاص منها…! فكتبت بلوعة وشعور موجع بالفقدان ” حين ترى التراب يغطي أغلى ما لديك وقتها، ستدرك كم هي تافهة الحياة” وفي ذات أغسطس الذي رحلت فيه كتبت:” سيأتي بها الله وإن تأخرت”

وتقرأ كلماتها الحاضرة الغائبة وهي تشبه حال أهل غزة في حرب إبادة مستعرة فتقول:” غرباء في دنيا لا تشبهنا، ننتظر الرحيل بصمت.”

كتبت مريم باجتهاد يومي عن الجرحى الشباب والأطفال وحاولت أن تساندهم في التعريف بمصابهم ومحاولة انقاذهم من الموت انتظارا لعلاج لا يأتي فصورت فيديو مع أحد الشبان الجرحى وكتبت: “أحمد شاب عشريني أصيب بصواريخ الاحتلال ما أفقده القدرة على المشي يطالب بأبسط الأمنيات، العلاج بالخارج للعودة للمشي ولعب كرة القدم التي يحب”

وكتبت معلقة على صورة التقطتها لطفل صغير يحمل المحلول لأبيه المصاب وقد بدا أكبر من عمره ويحمل جبال من الهم والألم فقالت: “في قسم الطوارئ بمستشفى ناصر، طفل صغير لا يتجاوز العاشرة، يمسك بيديه الصغيرتين كيس دم أكبر من حجمه…

يمشي بسرعة وخوف، وعلى وجهه ملامح رجولة أكبر من عمره”

وبلوعة وشوق وحنين كتبت في الفقدان العائلي:

“في ذكرى استشهاد أخي محمد، نزفُّ اليوم عصفورًا جديدًا، ابن أخي وسيم مجاهد، وسيم… له من اسمه نصيب، يحب الحياة ومن فيها، يحب الناس، بل هو من الناس وإليهم، يساعد الكل بلا طلب، يبادر بالعطاء قبل أن يُطلب منه، يمنحك الطمأنينة بنظرته، ويترك في قلبك أثرًا بصمته، وسيم، الهادئ… الوديع، رحل وتركنا على ذكراه، لا أدري كيف سأزور خيمته ولا ألقاه، كيف سأقف حيث كان… ولا أراه؟ أواه يا وسيم، أواه من فَقْدٍ يتكرر، ومن وجعٍ لا يزول، الروح مثقلةٌ يا عزيزي، كلما غاب وجهٌ أحببناه، ثقلت علينا الأيام، واستوطنتنا الغصّات. في حضرة الغياب، نُصلِّي للذكرى أن تبقى، وللحب ألا ينطفئ، ولأرواحكم الطاهرة أن تظل في علياء النور.”

مريم تشبه غزة التي غابت ولازالت حاضرة.!

قالتها مريم في قلب الإبادة الجماعية معبرة عما يجول في صدر كل صحافية وكل أم وكل فتاة في غزة:

” اشتقت لنفسي القديمة التي كانت بخير، اشتقت لعقلي الخالي من الهموم والتفكير والقلق، اشتقت لروح التي كبرت من كثرة المصاعب والمسؤوليات، اشتقت لإرادتي القوية المتفائلة بعيدا عن قسوة الحياة، اشتقت لنفسي قبل أن تنكسر أو تحزن، اشتقت لضحكتي القديمة النابعة من القلب بحق وحقيقة، اشتقت إلى الطمأنينة والأمان والراحة، اشتقت لنفسي التي كانت لا تبالي من شيء حقا، اشتقت لنفسي القديمة التي تاهت عني ومن الصعب استرجاعها……!

لقد وصفها زميلها الصحفي “عز الدين أبو عيشة” في تقريره للإندبندنت بأنها لم تكن مجرد صحفية، بل كانت محاربة تحمل كاميرا، وعاشت الحرب متنقلة بين البيوت المدمرة والمستشفيات المزدحمة ومخيمات النزوح، تسجل ما لا يريد الاحتلال أن يُسجَّل.”

“مريم” لم تكن الصحافية الأولى التي تستهدف ولم تكن الثانية ولا العاشرة ولا العشرون “مريم” رحلت ولم يتوقف قتل الصحافيات والصحافيين بغزة فقد استشهدت بعدها بعدة أيام قليلة الصحفية “إسلام عابد” برفقة زوجها وأطفالها، إثر قصف إسرائيلي استهدف شقتهم في مدينة غزة، واستشهدت الصحافية “إيمان الزاملي” حين رصدتها طائرة الكوادكابتر لتطلق رصاصاتها بينما تقف في طابور لتعبئة مياه شرب لها ولعائلتها، لتقتلها على الفور، تتساقط الشهيدات الصحافيات واحدة تلو الأخرى أمام أبصارنا وأعيننا، نشعر بالخطر والخوف الشديد على كل الصحافيات اللواتي لازلن في قطاع غزة من شمالها لوسطها لجنوبها، الصحافيون يستهدفون بكل صلافة وجبروت الاحتلال الإسرائيلي، يواجهون الإجرام ليس فقط قتلا واستهدافها بل تجويعا وحصارا، يمنعون دخول الصحافة الأجنبية والصحافيين الدوليين إلى غزة لتغطية الإجرام الذي يحدث كل دقيقة وساعة منذ ما يقارب الـ 700 يوم، ويستهدفون الصحافيون والصحافيات الذين لازالوا داخل غزة لقتل الحقيقة وقتل الشهود ووأد التوثيق للجرائم التي ترتكب بحق آباءنا وأمهاتنا وأطفالنا، أكتب الآن فيما رفح قد تم مسحها وغزة الآن تحترق وتتفجر المربعات السكنية مربعا بعد آخر بفعل الريبوتات المفخخة التي ترسلها قوات الاحتلال الإسرائيلي ثم تقوم بتدميرها، لا صحافة هناك الآن، لا صحافيون قادرون على التغطية الإعلامية للجرائم التي تحدث في كل دقيقة، بل ويقتلون في أماكن أخرى في غزة لأنهم عيون الحقيقة.

“مريم” التي تشبه غزة بتواضعها وبساطتها وإنسانيتها، ركضها لأجل إيصال الصوت، ابتلاعها لأحزانها وشجنها وأملها لمواصلة الواجب الصحفي هو وجه يشبه المدينة التي لازالت تباد، نبكي مريم كما نبكي غزة، نبكي بقربها وبعيدا عنها بعد أن غيبتها آلة القتل الإسرائيلية وعلى الهواء مباشرة، تماما كما غزة الآن تقتل وتستباح بيوتها وعائلاتها تدفن أحياء وكل ما لدينا أنفسنا، بقايانا وصوتنا المبتل بالدم الأحمر القاني، يا مريم لقد أوجعتنا وتركتنا من بعدك نهيم على وجوهنا، فمن تبقت من الإعلاميات ينتظرن الموت لا الحياة، الصحافيون يحملون أكفانهم الآن بدلا من كاميراتهم والعالم يشجب ويصرخ أيضا من حين لآخر لكن لا أحد يفعل شيئا لحماية الصحافيات والصحافيين، ماذا لو وضعنا شارة سوداء على منصاتنا الإعلامية، وماذا لو توقفنا عن التغطية الإعلامية خارج غزة، وماذا لو نشرنا كل يوم عن صحفي وصحافية لازالوا على قيد الحياة/الموت في غزة، نريدهم أحياء بيننا لا نريد نعيا آخر، نريدهم نابضين بالأمل من سيعطي الثكالى أملا بأن صوتهم يصل للعالم، لا تنتظروا إبادة من تبقى من إعلاميات وإعلاميين، افعلوا أكثر من ذلك توقفوا عن نقل وتصدير الرواية الإسرائيلية الرسمية لأنها ليست صوتا إنسانيا إنها صوت الاحتلال، أخبروا أولادكم وأحفادكم أن صحافيات وصحافيون غزة كانوا يحملون كاميراتهم في مواجهة القذيفة، وأقلامهم في مواجهة الصواريخ المتفجرة، وصوتهم في مواجهة الدبابات، وصورهم في مواجهة التجويع والتعطيش والقهر اليومي، أخبروهم أن الكلمة سلاح الإنسانية ورواية القصة هي ما نملكه كي نحافظ على ما تبقى من آدميتنا، فأنقذوا من تبقى في غزة..!

كتبت مريم بلسان حال أهل غزة وحال الصحافيات والصحافيين المزري في ظل إبادة لا ترحم: “نتظاهر أمام الجميع أننا بخير، نقف بثبات، ونمارس أعمالنا الحياتية بشكل طبيعي، نتحدث كثيراً عن الصبر، على الفقد، عن كل شي، نحن ليس بخير…!

 

ــــــــــــــــــــ

(*) كاتبة وإعلامية فلسطينية من قطاع غزة

 

[1] استشهدت المصورة الصحفية مريم أبو دقّة، مراسلة إندبندنت عربية في غزة، يوم 25 أغسطس 2025، إثر قصف إسرائيلي استهدف مبنى الطوارئ في مجمع ناصر الطبي بمدينة خان يونس

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى