سنوات وإرادة تطعم الناس والآن جائعة
غزة- رفيف اسليم:
في بلدة بيت حانون شمال قطاع غزة، كانت الشابة إرادة الزعانين (30 عامًا)، تمتلك أرضًا زراعية مساحتها دونمين ونصف، زرعتها بعدّة أصناف من الخضار والفاكهة، فأصبحت جنّة على الأرض، حتى اندلعت الحرب وانقلب الحال تمامًا.
بالدموع تروي إرادة ما حدث منذ بدء الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، يوم 7 أكتوبر 2023م، تقول: “تركت مشروعي الذي عملت عليه لسبع سنوات، كان مشروع تخرجي من كلية الهندسة الزراعية، استثمرت 68 مترًا لتطبيق فكرة الزراعة المائية، حققت اكتفاءً ذاتيًا لعائلتي، وفي الحرب تركت كل شيء ونزحت”.
في منتصف أكتوبر 2023م، أُجبرت إرادة على ترك بيتها عندما استنفدت قواها بالصمود، داخل مكانٍ يعدُّ خط الهجوم الأول على المدينة المحاصرة، كونها إحدى البلدات المتاخمة للأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948م، وذهبت لدى أقاربها في مخيم الشاطئ غرب غزة، ثم حي الزيتون شرق المدينة.
“تركت قلبي وغادرت”، فلم تكن الأرض بالنسبة لها مجرد طين، بل هي حياتها، تبتكر فيها العديد من طرق الزراعة الحديثة، مثل الزراعة المائية التي كلّفتها 9000$، أنتجت الخضار الورقية ضمن بيئة لا تتطلب الكثير من الماء أو السماد العضوي، فهي آمنة خاصة لمرضى السرطان.
تشهق وهي تسترجع ما جرى: “حوصرت في حي الزيتون في نوفمبر 2023م، لا أنسى صوت جنازير الدبابات وكأنها تخترق قلبي وتمزقه، وفي حضني طفلي الذي لم يتجاوز ثلاثة شهور، وحولي أمهات مثلي يصلون لله أن يخرجن هن وأطفالهن أحياء”.
تكمل: “زادت الآليات المحيطة بالمنزل، وازداد صراخ الأطفال والجوع والقهر، سمعنا صوت قصف منزلٍ مجاور، صرخ أهله من تحت الركام، وقلنا لأنفسنا (الدور علينا)، كان الجميع يتشبث ببعضه وكأنهم طوق نجاة، دائري رُمي لغريق وسط المحيط ليس له نهاية”.
لا تذكر إرادة عدد النساء والأطفال بالمكان، لكنهن قررن الخروج ورفع الهويات، تردف: “أعتقد أن هذا المشهد هو الأحب لجنود الاحتلال، أخذ الجندي يزمجر بصوتٍ ليخيفنا، فتشنا، قذفنا بكيلٍ من الشتائم، وبعضنا تلقت اللكمات، ونزحنا إلى جنوب قطاع غزة يوم 19 نوفمبر 2023م، وتوالت مرات النزوح لتصل إلى خمسة”.
عن أرضها تخبرنا إرادة إنها لم تكن مزروعة من فراغ، بل فيها العديد من ألواح الطاقة الشمسية، خزانات مياه، مضخات، وهيكل الخلية، الذي استنفد آخر ما لديها من نقود، وزرعت باقي الأرض بالحمضيات واللوزيات والفاكهة، وأصناف نادرة ومحببة، فكانت جنة للزائرين.
لم تكن إرادة تعمل وحدها داخل الأرض، فجميع أفراد أسرتها يعملون معها، تقول: “عندما أنشغل في العمل خارج المنزل أعود وأجد كل شيء كما لو أنني موجودة في الأرض، كانت بمثابة فرد من أفراد العائلة، انفطر قلبنا حين بلغنا خبر تجريفها في يونيو 2024م”.
علمت إرادة في ذلك الوقت، أن قذيفة تسببت في انهيار نصف المنزل، وأن حريقًا التهم غالبية الأشجار، وبعد دخول الآليات العسكرية وتمركزها في بيت حانون أكمل جنود الاحتلال باقي المهمة باقتلاع أشجار الخضار والفاكهة التي كانت غذاء أقاربهم خلال مجاعة الشمال الأولى في الشهور الأولى لعام 2024م.
تروي إرادة: “الموت في غزة يأتي على دفعات، يقتلوا الأمل فينا شيئًا فشيئًا، فبعد حرق الأشجار استأذن أحد الأقارب للمكوث في الأرض والعمل داخلها فأشجار الخوخ والليمون ما زالت باقية، وبالفعل رعى الأرض حتى حدثت الطامة وتم تجريف الأرض بعدها”.
الغريب كما تروي إرادة، أنها حين علمت بتحول الأرض إلى صحراء قاحلة لم تبدِ أي ردة فعل، لم تصرخ ولم تنهار، وبقي الحزن مؤجلًا، تكمل: “اللي مزعلني إني كنت حامل وولدت ببيت أهلي قبل الحرب، بيت زوجي لا يبعد عن بيت أهلي، بس ما قدرت أروح للأرض كان على الأقل ودعتها”.
عن خططها التي باتت رمادًا تحدثنا: “كنت أنوي صنع مملكة للصبار، لدي كافة أنواعه وأشكاله التي لم يراها سكان القطاع، استطعت تجميع 120 شتلة، كنت مستعدة لإفراغ مساحة من الأرض لكن الشتلات التي جمعت بشق الأنفس لا أعرف مصيرها، ربما احترقت أو أتلفت وربما سرقت”.
ويعد ما تعرضت له إرادة مخالفة لاتفاقية جنيف الرابعة خاصة المادة (53) التي تنص على حظر تدمير أي ممتلكات خاصة، ثابتة أو منقولة تتعلق بالأفراد والجماعات.
وترى المهندسة الزراعية أن الاحتلال يحاول هندسة التجويع بداية بتجريف الأراضي الزراعية وحتى إدخال البذور التي تزرع لمرة واحدة فقط، وصولًا لمنع إدخال الطعام وإغلاق أو تدمير مصادر المياه، جميعها خطة مكتملة لقتل الفلسطيني وتعذيبه بالتجويع الممنهج.
تبكي الشابة في كل مرة تشعر فيها بالجوع، تشتهي الخضروات والفاكهة، فكيف يمكن لمن كانت تزرع وتطعم الناس طوال عمرها أن يتم تجويعها بهذا الشكل المهين، معلّقة: “مقهورة وما في اشي بخليني أرجع أتنفس إلا لما ترجعلي أرضي اللي بيهددوا يضموها للأراضي المحتلة عام 1948م واحنا عاجزين”.
تختم إرادة: “لو الأرض موجودة لحققت اكتفاءً ذاتيًا لعائلتي خلال المجاعة”.