الوساطة المجتمعية: جسر لحماية الحقوق المنسية خلف ستار الحرب
الوساطة المجتمعية: جسر لحماية الحقوق المنسية خلف ستار الحرب
غزة، خديجة مطر،
بدء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة في السابع من أكتوبر2023، غابت منظومة القانون، فازدادت معاناة المواطنين والنساء تحديدًا، في ظل تعطل المحاكم وتوقف مؤسسات القضاء الرسمي, وفي هذا السياق، برزت الوساطة المجتمعية كأداة حيوية لحل النزاعات، أعادت الأمل لكثير من النساء في تحصيل حقوق ضاعت خلف ستار الحرب، وزواج غير منتهٍ، وأبناء بلا سند قانوني.
(أم حسن)، خمسينية من قطاع غزة، وجدت في الوساطة القانونية نافذة أمل لاستعادة حفيدتها “تغريد” ذات الثمانية أعوام، بعد صراع طويل مع أهل زوج ابنتها لرؤيتها. تقول: “حُرمت من رؤية حفيدتي لسبعة أشهر، وواجهت رفضًا قاطعًا من أهل والدها. لجأت إلى مركز الوساطة المجتمعية عبر ‘الجمعية الوطنية للديمقراطية والقانون’، والتي بادرت بالتدخل لحل النزاع ومنحي حقي في المشاهدة”.
وتوضح: “عقدت لجان الوساطة عدة جلسات بيني وبين أهل والدها، وبعد شهرين، تم التوصل إلى اتفاق مشترك وُثّق في وثيقة رسمية، خاصة بعد زواج الجدة الحاضنة في الخارج، وفقدان أثر والد الطفلة. وقد تم الاتفاق مع عمها على رؤيتها مرتين أسبوعيًا، مع إمكانية المبيت”.
ما حصل لم يكن انتصارًا قانونيًا حقوقياً فقط، بل كان انتصارًا نفسيًا أيضًا. تتابع أم حسن: “كانت تغريد تعاني من حالة نفسية صعبة بسبب غياب والديها، فتدخلت فرق الدعم النفسي وقدّمت لها جلسات متخصصة. تحسّنت حالتها تدريجيًا، وأصبحت أقلّ عصبية وتتواصل مع والدتها يوميًا”.
وتمضي باكية: “لم أصدق أنني سأحتضنها مجددًا. أعادت لي الوساطة الحياة. بفضل التوافق والتراضي، توصّلنا لاحقًا لاتفاق جديد يسمح بسفرها إلى والدتها خارج البلاد”.
وفي شمال القطاع، تعيش (نجوى – 43 عامًا) قصة أكثر قسوة. تقول بصوت مكسور: “هجرني زوجي منذ 13 عامًا، ولم يسأل عن أطفاله يومًا. اضطررت لرفع قضية نفقة، وكان يتم اقتطاعها من راتبه شهريًا، لكن مع بداية العدوان توقفت المحاكم، فانقطعت النفقة، وبات أطفالي بلا معيل”.
وتتابع بنبرة حزينة: “لم أعد قادرة على توفير قوت يومنا. أقف وسط الركام أبحث عن بعض الشواكل. أعدّ مع طفليّ (فادي وساجدة) عبوات كلور مصنّعة منزليًا ليقوموا ببيعها. لا بيت، لا دخل، ولا ملابس، كل شيء احترق مع منزل عائلتي”.
وتضيف: “حاولنا عبر الوساطة المجتمعية التواصل مع أقارب زوجي، لكنهم رفضوا التعاون. لا أحد يعرف عنوانه، ولا طريقة للتواصل معه. في ظل غياب المعلومات، تتعطل كل محاولات تحصيل الحقوق، وأجد نفسي أمام واقع قانوني معطّل”.
وتختتم: “يضطر أطفالي للتجول يوميًا بين الركام لبيع عبوات الكلور. أعلم أن حياتهم في خطر، فالحرب مستمرة، والقصف لا يميز أحدًا. لكن الجوع أقسى من الخوف. في أفضل الأيام، يجمعون عشرة شواكل بالكاد تكفي للخبز والطماطم، وفي أسوأها، يعودون بأيدٍ خالية”.
ورغم جهود الوساطة، لم تتمكن نجوى من تحقيق أي تقدم في قضيتها، بسبب غياب الطرف الآخر. وتُركت تواجه وحدها واقعًا قانونيًا وإنسانيًا قاسيًا، وسط غياب الرادع والتنفيذ.
الوساطة: تدخل مجتمعي لحماية النساء
غادة الصوص، مسؤولة برنامج الحماية في مركز الأبحاث والاستشارات القانونية وحماية المرأة، توضح أن الوساطة المجتمعية أصبحت بديلًا ضروريًا في ظل غياب القضاء الرسمي.
تقول: “يتمثل دورنا في تقديم الدعم النفسي والقانوني والحماية للنساء، إلى جانب استقبال النساء المعنفات أو المعرضات للخطر وإيوائهن عند الحاجة. ومع تعطل القضاء، شكلنا ثلاث لجان وساطة مجتمعية موزعة جغرافيًا بين خانيونس والمنطقة الوسطى ومدينة غزة”.
وتضيف: “تضم كل لجنة شخصيات اعتبارية، محامين، مؤثرين مجتمعيين، وأخصائيين اجتماعيين. نعمل على التدخل بين أطراف النزاع وإيجاد حلول قانونية توافقية تُوثق في المحكمة الشرعية، بما يمنحها قوة تنفيذية، رغم أننا لا نمتلك سلطة قضائية”.
ووفق الصوص، فقد نجحت لجان الوساطة خلال الأشهر التسعة الماضية في معالجة مئات القضايا، منها حالات طلاق وتفريق للضرر، واستعادة نفقة، وتحقيق حضانة ومشاهدة، ورفع منع من السفر، وكل ذلك من خلال توافقات مجتمعية موثّقة.
تشرح الصوص آلية استقبال القضايا قائلة: “نتلقى الشكاوى عبر برامج الدعم النفسي والقانوني داخل مراكز الإيواء والمخيمات، وفي المركز نفسه. نقدم خدمات شاملة تشمل الدعم النفسي والقانوني والحماية للنساء”.
وتلفت إلى أن كثيرًا من النساء المعلّقات حُرمن من النفقة بعد توقف البنوك عن تنفيذ الخصومات التلقائية. وتقول: “عالجنا عشرات هذه القضايا عبر حلول ودية تحفظ كرامة المرأة، رغم غياب السلطة القضائية”.
كما تشير إلى شراكات مع مؤسسات إغاثية ووزارة التنمية، لضمان توزيع المساعدات بشكل عادل على النساء المعلّقات أو المطلقات، عبر التنسيق لضمان حصولهن على حقوقهن في الحصص الإغاثية.
وتختم الصوص بالتأكيد على أن “الوساطة المجتمعية والقضاء الشرعي يلعبان أدوارًا تكاملية، لكنها ليست حلولًا جذرية. فالقضاء الشرعي، وإن استمر اسميًا، لم يعد قادرًا على تنفيذ الأحكام، خصوصًا المتعلقة بالنساء، والتي تحتاج إلى تدخل مالي وقوة تنفيذية تضمن تطبيق القانون”.