وانقطعت أدويتها أيضًا.. أم خالد: الجوع ينخر أجسادنا
غزة-هبة أبو عقلين:
في زاوية خيمتها المهترئة، تجلس أم خالد علوش (50 عامًا) تراقب الغروب بعينين غارقتين بالتعب، فلم تتخيل يومًا أن يصل بها الحال لقضاء يومها كاملًا وهي تبحث عن فتات خبزٍ تسد به جوعها.
تمسك أم خالد -وهي مريضة بالضغط والسكر- بخبزةٍ يابسة صغيرة تقطعها نصفين وهي تحاول إقناع أبنائها خالد (17 عامًا) ومحمد (14 عامًا) أنها كافية لسدّ رمقهم، لكنها تدرك في قرارة نفسها أن الجوع الذي تعانيه أكبر من مجرد قطعة خبز، وأن المجاعة هذه ليست الأولى لكنها الأسوأ.
بصوتٍ مكسور واهن تقول: “الطحين لم يدخل خيمتنا منذ شهر، ولا يوجد بديل، لو استطعنا الاستغناء عنه لفعلنا، لكه ضرورة للعيش، ثمنه مرتفع جدًا ولا نملك المال لشرائه، نحاول أن نعيش بأقل ما يمكن، لكن الأزمة صعبة ولا أدري كيف نحلها”.
تتنهد ببطء وتكمل: “أحيانًا أعجن ثلاثة أرغفة نسد بها جوعنا، حتى لا نموت من الفقر والجوع معًا”.
تحدق بيعين غائرتين تملأهما الدموع وهي تستذكر، حيث كانت تعيش في بيتها بحي الشيخ رضوان غرب مدينة غزة، تحصل على علاج الضغط والسكر والقلب والعظام بانتظام، وتجد في زيارتها الشهرية للطبيب فرصة للاطمئنان على صحتها، وتسهر على رعاية بيتها وابنيها.
لكن اندلاع الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة منذ 7 أكتوبر 2023م، قلب حياتها رأسًا على عقب، لتأتي المجاعة التي تسبب بها الاحتلال الإسرائيلي بإغلاقه معابر القطاع، ومنع دخول المساعدات الإنسانية منذ مارس 2025م ليزيد الوضع تعقيدًا.
تقول: “استشهد زوجي مهران في 23 نوفمبر 2023م، كان ذاهبًا إلى بيتنا لتفقده، بحثنا عنه في ظل القصف المستمر وبعد ستة أيام عثرنا عليه شهيدًا في أحد شوارع الحي، ضاع الأمان بموته، وسيطر الحزن على حياتي”.
نزحت أم خالد من بيتها بتاريخ 1 نوفمبر 2023م، مجبرة بسبب أوامر الإخلاء الإسرائيلية على منطقتهم واتجهت مع زوجها وأبنائها إلى بيت أحد أقاربهم وسط مدينة غزة، ثم إلى حي الصبرة داخل المدينة هاربة من القصف والهدم، وأوامر الإخلاء.
تقول: “تنقلت ثلاث مرات خلال فترة قصيرة، كل نزوح يسرق مني جزءًا من قوتي وصبري، عدت في الهدنة الأولى التي استمرت مدة أسبوع من 24 نوفمبر حتى 30 نوفمبر 2023م، فلم أجد سوى أنقاض بيتي وجثة زوجي الملقاة على الأرض”.
لم يكن النزوح والفقد كل ما أثقل قلبها، بل انقطاع ابنها خالد عن التعليم وهو الذي كان يستعد للثانوية العامة، أطفأ حلمًا كبيرًا في قلبها بأن تراه شابًا جامعيًا، ويؤسس لنفسه مستقبل أفضل، لتأتي المجاعة تزيد من وجعها، إلى جانب انقطاع الأدوية اللازمة لها، ما يجعلها تواجه مشهدًا يوميًا من العجر والقلق كما تصف.
تضيف: “لم أستطع تأمين حياة كريمة لأبنائي، حتى لقمة العيش في ظل المجاعة والقصف لا نستطيع توفيرها ولا التفكير بالعلم والتعليم، كل ما يشغلنا الطحين والخبز، وهو غالٍ جدًا، نكتفي بعجين نصف كيلو بالكاد يسد جوعنا، أضطر لاستلاف ثمن الطحين من جارتي أو أقاربي، فأنا بلا معيل ولا مصدر دخل”.
وتضيف: “المرض والألم يلاحقانني، والذكريات تثقل قلبي، لكن ما أصعب أن تكوني مريضة وتواجهين الموت ببطء جوعًا وعطشًا وسط هذا الخراب”.
مرض السكري الذي تعانيه صار عبئًا أكبر مع غياب الأدوية وعدم وجود رعاية طبية، وغلاء السكر في الأسواق وفقدانه في معظم الاحيان تقول أم خالد: “سُكّري أصبح خارج السيطرة، وأحيانًا أشعر بأنه يحترق في جسدي، لكن لا دواء ولا علاج، السكر مفقود من الأسواق”.
تتحدث أم خالد عن المجاعة التي لم تكن الأولى، فقد مرت عائلتها بمجاعة سابقة في ديسمبر 2023م حتى إبريل 2024م، واضطرت خلالها إلى أكل علف الحيوانات، لكنها تقول:” هذه الموجة من المجاعة أقسى من الماضية، الجوع ينخر أجسادنا، ونحن بحاجة إلى دعمٍ حقيقي لا مجرد وعود”.
تنتهك هذه المعاناة اليومية التي تحياها أم خالد، وجموع المدنيين في قطاع غزة، ما نصّت عليه اتفاقية جنيف الرابعة، التي تحظر في مادتها (55) تجويع المدنيين أو عرقلة وصول الإمدادات الإنسانية الأساسية إليهم.
كما تؤكد المادة (17) من نفس الاتفاقية على ضرورة توفير الرعاية الطبية المستمرة للمصابين والمرضى، لاسيما كبار السن وأصحاب الأمراض المزمنة.
تختم أم خالد حديثها والدموع تترقرق في عينيها: “كلُ يوم أصارع الجوع لأُبقي أولادي على قيد الحياة، أحيانًا أفكر أن أصبر وأتحمل، لكن القلب لا ينسى وجع الألم والجوع والفقد”.