“في ظل انهيار العدالة الرسيمة: آليات بديلة تُواجه الفوضى في غزة”
“في ظل انهيار العدالة الرسيمة: آليات بديلة تُواجه الفوضى في غزة”
اعداد : رغد الغصين
مركز التنمية والإعلام المجتمعي
منذ اندلاع العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة في أكتوبر 2023، لم يعد الخطر محصورًا في الجرائم التي ينفذها الاحتلال بحق المواطنين، بل امتد ليطال الحياة المدنية بكل تفاصيلها. ومع استهداف مقرات الشرطة والمحاكم والمؤسسات القضائية، انهارت منظومة العدالة، وبرز فراغ قانوني وأمني خطير، خلّف تداعيات عميقة على السلم الأهلي والنسيج المجتمعي.
فقد تحوّلت الشوارع إلى ساحات مفتوحة للمسلحين، وانتشرت الأسلحة دون رقابة، وتزايدت حالات السطو والانتهاك، بينما تُحلّ الخلافات والنزاعات عبر الوساطة العشائرية، في ظل غياب أي سلطة قضائية أو تنفيذية رسمية.
عدالة منهارة وقانون معطّل
بحسب القانون الدولي الإنساني، وبموجب اتفاقية جنيف الرابعة، فإن حماية المدنيين أثناء النزاعات المسلحة تُعد من أبرز الالتزامات القانونية على الأطراف المتحاربة. ومع ذلك، يكشف واقع غزة عن انتهاكات جسيمة لتلك المبادئ، ليس فقط بسبب القصف والدمار، بل بفعل غياب العدالة وانهيار مؤسسات إنفاذ القانون.
استهداف المحاكم ومراكز الشرطة أفقد المدنيين حقهم في اللجوء إلى العدالة الرسمية، وترك لهم بدائل اجتماعية كـ”الوساطة المجتمعية” و”القضاء العرفي”، وهي أدوات رغم فاعليتها النسبية، إلا أنها تفتقر أحيانًا لسلطة الإلزام، والمعايير القانونية المنظّمة.
“خذوا كل شيء.. فقط لا تقتلونا”
في حادثة واقعية مؤلمة، تروي إحدى العائلات الغزية ما تعرضت له أثناء توجهها إلى السوق في وضح النهار، عندما اعترض طريقها مسلحون مكشوفو الوجوه، وحاولوا سرقة السيارة تحت تهديد السلاح. تقول الأم التي كانت برفقة زوجها: “توسلت إليهم قائلة: خدوا اللي بدكم إياه… بس أمانة لا تقتلونا.”
وقف المارة يراقبون في صمت، خوفًا على حياتهم، فيما انسحب المسلحون بعد دقائق دون إصابات. لكن ما تركوه خلفهم كان أعمق من خسارة مادية… كانت صدمة نفسية مريرة، وجرحًا مفتوحًا في ذاكرة العائلة, ورغم أن العائلة تعرفت لاحقًا على المعتدين عبر بعض أبناء المنطقة، فإن محاولات التواصل مع الشرطة لم تجدِ نفعًا، بسبب تعطل النظام الأمني الرسمي. فلم يكن أمامهم سوى اللجوء إلى الحلول البديلة، التي أنهت القضية باتفاق عرفي تضمن:
- اعتذارًا شفهيًا
- تعهدًا بعدم التعرض مجددًا
- التعويض المادي المشروط في حال تكرار الاعتداء
تقول العائلة:
“الوساطة أغلقت القضية في الجانب الخاص، وهذا وإن كان غير كافي مقارنة بفظاعة الجُرم، لكنه مهم في ظل انعدام الأمن وغياب منظومتي العدالة والأمن. نأمل أن يأتي اليوم الذي ينال فيه الجناة جزاءهم القانوني جراء انتهاك القانون والتعدي على حرمات وأرواح وأموال المواطنين.”
“عدالة بديلة” أم واقع مفروض؟
القانوني .أ منذر الفيراني يوضح أن الأصل في تسوية النزاعات أن يكون عبر الجهات القضائية الرسمية، لما توفره من ضمانات قانونية وعدالة مؤسسة. لكن الظروف الطارئة في غزة فرضت واقعًا استثنائيًا، جعل من الوساطة والتحكيم العرفي أدوات ضرورية لا مفر منها.
يقول الفراني: “الوسائل البديلة لا تملك نفس القوة القانونية والإلزامية، لكنها تكتسب مشروعيتها من بعض نصوص وروح القانون والضرورة.”
ويضيف: “ينبغي إجراء تعديلات تشريعية لتنظيمها، وضمان الرقابة على إجراءاتها ونتائجها، مع تصديق ما هو صحيح وقانوني منها لدى المحاكم الرسمية، لإكسابه الصيغة والقوة التنفيذية.”
واقع متفجّر… وحاجة لآليات منظمة
في ظل تصاعد وتيرة الانفلات الأمني، يعيش المواطنون حالة دائمة من التوتر والخوف، بسبب انتشار السلاح، وتنامي الجريمة، وغياب المحاسبة. فيلجأ المواطنون للآليات البديلة لحل النزاعات كآليات “ممكنة” ، تسهم في:
- الحد من تفاقم النزاعات
- الحفاظ على النسيج الاجتماعي
- توفير حلول سريعة ومرنة
لكن، تبقى هذه الوسائل محدودة التأثير في القضايا التي تحتاج لإلزام قانوني أو فرض عقوبات، وتكون أكثر نجاعة في مجالات مثل:
- الأحوال الشخصية
- النزاعات العائلية
- قضايا مالية بسيطة
توصيات قانونية ومجتمعية :
- توثيق جميع الانتهاكات – بما في ذلك تلك التي سُوِّيت عشائريًا – تمهيدًا لمحاسبة الجناة بعد انتهاء الحرب.
- إنشاء لجان أهلية مستقلة لرصد وتوثيق الجرائم المجتمعية والانفلات الأمني.
- دعم إعادة هيكلة منظومتي الأمن والعدالة على أسس مهنية، شفافة، وخاضعة للمساءلة المجتمعية.
- تدريب الوسطاء القانونيين والعشائريين على:
- مبادئ حقوق الإنسان
- أسس الصياغة القانونية للاتفاقات
- الحيادية وعدم الانحياز
- المناصرة الدولية لإعادة بناء قطاع العدالة ليس فقط من الجانب الإنساني، بل من منظور قانوني ومؤسسي لضمان كرامة وحقوق السكان.
وعلى الرغم من تعطل منظومتي العدالة والأمن، تبقى آليات حل النزاعات بالطرق البديلة – إذا ما مورست ضمن إطار قانوني منظم وبشفافية – طوق نجاة ضروري للحفاظ على السلم الأهلي وتعزيز الحوار. غير أن هذه الحلول لا تُغني عن العدالة الرسمية، بل ينبغي أن تُنظم وتُراقب كجزء من منظومة شاملة تُعيد للمواطن ثقته بحقوقه وبدولة القانون.