إبادة رقمية: قمع المحتوى الفلسطيني في الفضاء الرقمي

إبادة رقمية: قمع المحتوى الفلسطيني في الفضاء الرقمي

أماني شنينو_غزة

في الوقت الذي تُرتكب فيه أبشع المجازر بحق المدنيين في قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر 2023، تدور رحى معركة أخرى على جبهة مختلفة: الفضاء الرقمي. إذ يتعرض المحتوى الفلسطيني لحملة منظمة من التقييد والحذف، تقودها خوارزميات منصات التواصل الاجتماعي وتغذيها ضغوط سياسية، في محاولات مستمرة لتغييب الرواية الفلسطينية وتكميم أفواه من يوثقون الجرائم والانتهاكات الاسرائيلية ضد المدنيين في قطاع غزة.

أكثر من 800 حالة حذف وتقييد خلال عام واحد

وفقاً لتقارير حقوقية، تم توثيق أكثر من 800 حالة إزالة أو تقييد لمحتوى فلسطيني على منصات “ميتا” وحدها في العام الماضي. غالباً ما تستهدف هذه الإجراءات منشورات توثق الانتهاكات أو تعبّر عن التضامن مع غزة، في انتهاك صارخ لحرية التعبير والحقوق الرقمية التي كفلتها المواثيق الدولية.

حرية التعبير ليست ترفا

وفي هذا الصدد، يقول أحمد قاضي، المدافع عن الحقوق الرقمية ومختص في إدارة المحتوى وسياسات منصات التواصل الاجتماعي، وهو أيضاً؛ مدير الرصد والتوثيق في مركز حملة:” تُعد حرية التعبير واحدة من أهم حقوق الإنسان الأساسية التي تكفلها القوانين الدولية، هذا الحق يتيح للأفراد التعبير عن آرائهم وأفكارهم دون خوف من الرقابة أو العقاب. وفي العصر الرقمي، أصبحت منصات التواصل الاجتماعي من أبرز المساحات التي يُمارس فيها هذا الحق.

مع ذلك، تُواجه هذه المنصات أحياناً ضغوطاً سياسية أو اقتصادية تؤثر بشكل مباشر على مدى احترامها لحرية التعبير، مما ينعكس على طبيعة المحتوى المنشور ويطرح تساؤلات جدية حول مصداقية هذه المساحات كفضاء مفتوح للجميع”.

وحول الخطوات الفعلية لفضح الانتهاكات الرقمية، يقول قاضي:” في مركز حملة، نعمل على رصد وتوثيق المحتوى الفلسطيني الذي يتعرض للتقييد أو الحذف بمختلف أشكاله. أنشأنا لهذا الغرض منصة إلكترونية تحمل اسم ‘حر’، وهي متاحة عبر موقع المركز. تتيح هذه المنصة لأي فرد أو مؤسسة أو وسيلة إعلامية، سواء كانت فلسطينية أو غير فلسطينية، تعرضت لقيود أو إجراءات بسبب دعمها للقضية الفلسطينية، أن تقدم بلاغاً عبر تعبئة نموذج بسيط”.

 

ويُواصل:” بعد استقبال البلاغ، نقوم بالتحقق من الحالة، ونتواصل مع المُبلّغ. وبفضل شراكاتنا مع عدد من أبرز شركات التواصل الاجتماعي، نتمكن من التواصل مع هذه المنصات بشكل مباشر. نعمل على استرجاع المحتوى المحذوف، ورفع القيود عن الحسابات أو الصفحات، أو حتى استعادة حسابات تم حذفها.

كما نستقبل بلاغات تتعلق بالتحريض الرقمي، أو الابتزاز الإلكتروني، ونسعى لتقديم الدعم للضحايا أو المتضررين من هذه الانتهاكات عبر الإنترنت”.

 

وفيما يتعلق بما يُعرف بـ ‘الإدارة المفرطة للمحتوى الفلسطيني’، هناك مجموعة من الكلمات أو الصور التي يتم حظرها أو حذفها تلقائياً. وهذا يرتبط بشكل مباشر بتدريب الأنظمة والخوارزميات المستخدمة في إدارة المحتوى على منصات التواصل الاجتماعي. فكما يتم تدريب أنظمة الذكاء الاصطناعي مثل ChatGPT على كميات ضخمة من النصوص لإنتاج إجابات، يتم أيضاً تدريب خوارزميات هذه المنصات على تحديد المحتوى المسموح أو المرفوض. ما يؤدي في كثير من الأحيان إلى حذف تلقائي وغير مبرر لمحتوى فلسطيني مشروع. بحسب قاضي.

 

أدوات رصد وقتل “غير دقيقة”

من جهةٍ أخرى، في الوقت التي يفرض بها الاحتلال خوارزميات معينة معادية للمحتوى الفلسطيني رقمياً، فإنه يوجه أسلحة التكنولوجيا ضد الفلسطيني في غزة، أوضح تقرير لهيومن رايتس ووتش وجود أدوات رقمية وذكاء اصطناعي يعتمد عليها الجيش الإسرائيلي في تحديد أهدافه، رغم عدم دقتها، والتسبب في ازدياد أعداد الضحايا من المدنيين، إلا أنه يستخدمها متجاهلاً تبعاتها، مؤديةً بذلك هجمات غير قانونية وأضرار مدنية جسيمة.

 

بحسب ما جاء في التقرير:” هناك أدوات استخدمها الجيش الإسرائيلي في الأعمال العدائية في غزة منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، من ضمن هذه الأدوات، هناك أداة تعتمد على تتبع الهواتف الخلوية، لمراقبة إجلاء الفلسطينيين من أجزاء من شمال غزة أمر الجيش الإسرائيلي سكانها بالكامل بالمغادرة في 13 أكتوبر/تشرين الأول؛ وأداة تُعرف بـ “غوسبل” تُعِدّ قوائم بالمباني أو الأهداف الهيكلية الأخرى التي سيتم مهاجمتها؛ وأداة تُعرف بـ “لافندر” تمنح تصنيفات للأشخاص في غزة فيما يتعلق بانتمائهم المشتبه به إلى الجماعات المسلحة الفلسطينية من أجل تصنيفهم كأهداف عسكرية؛ وأداة تعرف بـ “أين أبي (?)، تزعم تحديد متى يكون الهدف في مكان معين – غالبا مكان إقامة عائلته المفترض، وفقا لتقارير إعلامية- لمهاجمته هناك.”

 

ما هو المحتوى الذي يُحذف، تحديداً؟

يُجيب قاضي:” لا توجد في الوقت الحالي قائمة معلنة من قبل منصات التواصل الاجتماعي توضّح بشكل واضح ما يُسمح بنشره، أو ما يُحذف تلقائيًا من المحتوى. وهذه إحدى أبرز مطالبنا، إذ أن تلك المنصات تفتقر إلى الشفافية في هذا الجانب، ولا تكشف آليات تدريب أنظمتها اللغوية، أو ما يُعدّ محظورًا من الكلمات أو الصور. ومع ذلك، ومن خلال الرصد المستمر والتجارب الميدانية، إضافة إلى بعض التسريبات، استطعنا تكوين صورة تقريبية عمّا يُعتبر محظورًا على هذه المنصات. فعلى سبيل المثال، تُدرج معظم الأحزاب السياسية الفلسطينية ضمن قوائم الحظر، مما يؤدي إلى حذف تلقائي لأي منشور يذكر اسم أحد هذه الأحزاب.”

ويُتابع:” كما كانت كلمة ‘شهيد’ تُحذف تلقائيًا في وقت سابق، إلا أن حملات الضغط المستمرة التي قادها مركز حملة ومؤسسات أخرى نجحت في تخفيف هذا التقييد، فشهدنا تغيرًا ملموسًا في التعامل مع هذه الكلمة.

كذلك، كانت كلمة “الأقصى” تُعامل كمحتوى محظور في مرحلة معينة، خصوصًا على منصات “ميتا”، بسبب ربطها بتنظيمات مصنفة ضمن قوائم الحظر مثل “كتائب شهداء الأقصى”، وقد أدى هذا الخلط إلى إزالة محتوى لا علاقة له بأي تحريض أو عنف، قبل أن تعمل الشركة لاحقًا على تصحيح هذا الخلل وتسمح باستخدام الكلمة”.

 

أدلة على تقييد المحتوى الفلسطيني

يُؤكد قاضي:” جميع أشكال التقييد التي أشرنا إليها سابقاً تصاعدت بشكل ملحوظ منذ بدء حرب الإبادة على قطاع غزة في أكتوبر من عام 2023. ومنذ ذلك الحين، اتخذت الشركة إجراءات رسمية ومعلنة تهدف بوضوح إلى تقييد المحتوى الفلسطيني. بعض هذه الإجراءات كان مؤقتاً وتوقف بعد أشهر، إلا أن بعضها الآخر ما زال مستمراً حتى اليوم، وعلى رأسها ما يُعرف بـ ‘حظر الظل’. وقد انخفضت نسبة الوصول إلى غالبية الصفحات والحسابات الفلسطينية، بما في ذلك صفحات وسائل الإعلام، بشكل كبير مقارنة بما كانت عليه قبل أكتوبر.

 

ويُشير:” إلى أن بعض وسائل الإعلام تراجعت نسبة وصول محتواها بأكثر من 77%، رغم أن سياسات المنصات نفسها تنص على أن للجهات الإعلامية الحق في استخدام مفردات معينة ضمن سياق التغطية الإخبارية، باعتبارها نقلاً للوقائع وليس تحريضاً أو دعماً.

تُثبتُ التقارير أن المحتوى الفلسطيني يعاني من تمييز واضح، حيث انخفضت نسبة الوصول إليه بما يتجاوز 67%، في مقابل ارتفاع كبير في وصول المحتوى الإخباري للصفحات الإسرائيلية الناطقة بالعبرية”.

 

من يُؤثر على السياسات التحريرية لـ”ميتا”؟

يقول أحمد قاضي:” تلعب المؤسسات الإسرائيلية، إلى جانب جهات داعمة لإسرائيل في الخارج، دوراً محورياً في الضغط على منصات التواصل الاجتماعي لإزالة وتقييد المحتوى الفلسطيني. هذه المؤسسات لا تكتفي بممارسة الرقابة على الحسابات والصفحات الفلسطينية، بل تعمل أيضاً على التشهير بها والتحريض ضدها.

فعلى سبيل المثال، هناك مؤسسات داخل إسرائيل مثل منظمة ‘ووتش’، التي قادت حملات ممنهجة ضد وكالة الأونروا، وساهمت بشكل مباشر في متابعة وتوثيق محتوى موظفين فلسطينيين داخل الوكالة، ومن ثم استخدامه للتشهير بالوكالة والمطالبة بوقف الدعم المقدم لها. كما أن هذه الجهات تقوم بالتحريض العلني ضد الصحفيين والصحفيات الذين يوثقون الجرائم الإسرائيلية في قطاع غزة، وتتابع حساباتهم بشكل دوري، وترسل بلاغات مباشرة إلى منصات مثل ‘ميتا’ للمطالبة بإزالة هذا المحتوى أو تعليق هذه الحسابات”.

 

 

ويُضيف:” الأمر لا يتوقف عند الداخل الإسرائيلي فقط، فهناك أيضاً مؤسسات يمينية صهيونية في الخارج تنشط في ملاحقة النشطاء والناشطات الداعمين للقضية الفلسطينية، خصوصاً في الولايات المتحدة. هذه الجهات لا تكتفي بحذف المحتوى، بل تذهب إلى أبعد من ذلك بالتشهير بهم، والتحريض على فصلهم من وظائفهم، بل وحتى سحب إقاماتهم، في إطار حملة منظمة ومعلنة تمارسها هذه المؤسسات بالتنسيق مع السلطات.

كما نشهد نشاطاً مكثفاً لمجموعات غير رسمية – تُدار في العادة عبر تطبيقات مثل واتساب وتيليغرام – تنظم حملات تبليغ جماعية ضد المحتوى الفلسطيني”.

 

تأثير الانتهاكات الرقمية على التوثيق

وحول تأثير هذا القمع الرقمي على توثيق الانتهاكات، لاسيما خلال الحرب على قطاع غزة، يُؤكد قاضي على أنه من خلال شهادات وأبحاث ميدانية قام بها مركز حملة، كشفت أن كثيراً من الصحفيين والمواطنين باتوا يمارسون رقابة ذاتية خوفاً من العقاب. وأكثر من 70% من الفلسطينيين أصبحوا يحذرون مما ينشرونه، حتى تقلصت مساحة التعبير، وكذلك أثَّر هذا القمع على دخل الصحفيين وصنّاع المحتوى بسبب انخفاض الوصول والإعلانات. وعلى المستوى الإنساني، أعاقت القيود الرقمية التواصل الحيوي في غزة، مما يُهدد سلامة المدنيين، وحرية الصول للمعلومات ونقلها.

 

استراتيجيات لمواجهة الرقابة والتقييد الرقمي

يقول قاضي:” كلما ازدادت وتيرة التوثيق والتواصل مع المنصات، تمكّنا من فهم السياسات المعتمدة بشكل أوضح، وممارسة المزيد من الضغط من أجل تقليل التقييد المفرط للمحتوى الفلسطيني، كذلك متابعة الحالات الفردية كما نقوم به في مركز حملة عبر منصة “حر” لاسترجاع المحتوى والحسابات.

استخدام البيانات المُجمعة في إعداد تقارير تحليلية تُوظف في جهود المناصرة والضغط على شركات التكنولوجيا، بالتعاون مع مؤسسات محلية ودولية وبرلمانيين داعمين في الكونغرس الأمريكي للضغط على هذه الشركات لتغيير سياساتها.

كما من المهم تمكين النشاط القانوني والإعلامي في تسليط الضوء على القضية”.

 

يُذكر أن المواثيق والقوانين الدولية تُؤكد على على أن حرية التعبير والحقوق الرقمية هي حقوق أساسية لا يجوز المساس بها تحت أي ظرف. فقد نص الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية في مادتهما التاسعة عشرة على حق كل إنسان في اعتناق الآراء والتعبير عنها، ونقل المعلومات دون قيود.

كما شددت الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان والميثاق الإفريقي لحقوق الإنسان، وكذلك الأمم المتحدة أن الحقوق الرقمية التي يتمتع بها الأفراد خارج الانترنت يجب أن تُصان أيضاً على المنصات الرقمية، مؤكدةً في تقاريرها وقرارات جمعيتها العامة إلى أن التضييق الرقمي انتهاك صريح لهذه الحقوق.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى