الناجيةُ الوحيدة طفلةٌ اسمها (جنى)
دير البلح – هيا بشبش:
تمام السادسة صباحًا، سرّحت الأمّ لطفلتها (جنى) شعرها (ظفيرةً) كما تحب هي وتوأمها (سجى)، وبعدما تناولت وجبة الإفطار برفقة إخوتها الثلاثة، وحضّرت الأم حقائبهم المدرسية، دوّت انفجارات هائلة أرعبت الجميع، وأعلن والدُها “فش مدرسة اليوم”، بعدها تغيّرت حياة العائلة تمامًا.
كان هذا هو المشهد الذي عاشته الطفلة جنى المطوّق (12 عامًا) صبيحة يوم 7 أكتوبر 2023، عندما اندلعت الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، والذي حفر نفسه بعمقٍ في ذاكرة الطفلة، حتى أكلة ورق العنب والمحشي التي طبختها أمها في هذا اليوم لم تنسَ طعمها فهي تعشقها، اللون الوردي الذي يزين جدران غرفتها هي وتوأمها سجى، كلها أصبحت ذكريات، بعدما قضت مجزرة على كلِ العائلة!
على باب خيمتها في أحد مخيمات النزوح بمدينة دير البلح وسط قطاع غزة، تجلس جنى إلى جانب جدّتها لأُمِها، لكنها تصرّ على الانتقال إلى داخل الخيمة القماشية الصغيرة التي تعيش فيها برفقة جدّيها وخالها، وكأنها تخبىْ نفسها عن أعينهم في محاولةٍ لإخفاء ما يظهر من دموعٍ في عينيها المثقلتان بالألم.
تقول جنى: “لا أحب أن أروي قصتي أمام أحد، أحتفظ بذكريات وتفاصيل أسرتي لنفسي، استشهدوا كلهم، بابا، ماما، حسام (7 سنوات) محمد (4 سنوات) وتوأمي سجى، وأعمامي الخمسة، وجدّاي لأبي”.
تروي جنى ما حدث لعائلتها منذ بدء العدوان الإسرائيلي حين أجبر الاحتلال الإسرائيلي مئات الآلاف من سكّان شمال قطاع غزة على النزوح إلى جنوبه، بينما ظلّت عائلة جنى في بيتهم شرق مدينة جباليا شمال قطاع غزة، مدة أربعين يومًا.
نزحت عائلة والدة جنى إلى بيتهم، ومن ثم انتقلوا إلى مركز إيواء قريب (مدرسة أونروا) بسبب العدد الكبير من النازحين داخل البيت، فانتقلت معهم جنى لحبّها الشديد لجدّتها لأمها، ويوم الجمعة 11 ديسمبر 2023، استيقظت ليلًا على صوت قصف وانفجارات، أرعبت النازحين في المدرسة.
تأخذ جنى نفسًا عميقًا وهي ترسم ابتسامة حزنٍ باهتة وتكمل: “علمتُ من صراخ النازحين في المدرسة أن القصف استهدف منزلي، لجأتُ إلى حضنِ جدتي وأنا أبكي وأصرخ، هدأتُ بعد ساعة ونصف، لم أرَ منزلي ولم أودّع أحدًا، فقط كنت أستمع لأصوات الإسعافات وصراخ من ينتشلون الجثث، وبكاء جدتي، راقبت كل هذا بصمت”.
كانت ليلةٌ قاسية، أنهت سجلّات 5 من أفراد عائلة جنى، وأبقت السجل مفتوحًا بنجاة جنى وحدها، حين مكثت إلى جانب جدّتها بالمدرسةِ المجاورةِ لمنزلهم الذي كان يتكوّن من خمسة طوابق، قبل أن تسوّيه الطائرات بالأرض.
في اليوم التالي للمجزرة، تسحّبت جنى خفيةً وذهبت إلى بيتها، تعقّب: “ما صدقت عينيا، بيتنا كان كومة ركام، جدّتي بحثت عنّي حتى وجدتني، احتضنتني وبكينا سويًا وعدنا للمدرسة”.
تكمل: “في اليوم التالي لاستشهادهم، سلّموني هاتف أمي، هو فقط الناجي من المجزرة، ليبقى ذكرى، عدت مجددًا للركام وبحثت عن الجميع، وفي اليوم الثالث طلبت من جدّتي النزوح إلى الجنوب هربًا مما حدث، وفي الطريق لم أتوقف عن البكاء ولوم نفسي كيف تركتهم خلفي”.
نزحت جنى برفقةِ جدّيها لأمها وأخوالها إلى دير البلح وسط قطاع غزة، ظنًا منهم إنها منطقة آمنة، كما زعم جيش الاحتلال الإسرائيلي، حين دعا المواطنين الفلسطينيين إلى النزوح، في مخالفة لبنود اتفاقية جنيف الرابعة الخاصة بحماية المدنيين وقت الحرب، والتي حظرت التهجير القسري للمدنيين، كما حظرت استهداف المدنيين وممتلكاتهم مثلما حدث مع عائلة جنى.
وصلت جنى وعائلة والدتها إلى دير البلح مشيًا على الأقدام، متعثرين بجثث الشهداء والطرق المجرّفة وصوت القصف الذي لم يهدأ.
تمسح دمعةً لم تستطع كتمها وهي تكمل: “أقام جدّي وأخوالي خيمةً قرب كلية فلسطين التقنية، اقتطع خالي المتزوج لعائلته جزءًا منها، والجزء الآخر لجدّتي وجدي وخالي وأنا، اعتقدت أن النزوح سينسيني بعض ألمي، ولكن بالعكس، أتوقُ شوقًا للعودة إلى مدينتي وإلى بيت أبي وأمي، حتى وإن كانوا تحت التراب”.
“أشتاق لتوأمي سجى كثيرًا”، هكذا تجيب جنى كلما ذُكر اسم سجى، وتكمل:” سجى شخصيتها قوية، تحب تحليل الشخصيات، تهوى الكتابة كما أنا، في كل خطوة كنّا معًا، تنام معي عند جدتي ولكنها قبل المجزرة غادرت وعادت للبيت، كنت سأذهب معها ولكن اتصال أمي بزوجة خالي واتفاقهم على خَبز الخُبز أوقفني عن العودة، لأشارك العمل بالخبز، ليتني ذهبت مع سجى”.
تختم بتنهيدة حارّة: “أفتقدهم جميعًا، أنا الآن وحدي”.