من المعتقل إلى بيتٍ مدمّر (أجهضت بسبب الخوف وإجاني غضروف من التعذيب)… (ياسمين) تروي الحكاية

من المعتقل إلى بيتٍ مدمّر

(أجهضت بسبب الخوف وإجاني غضروف من التعذيب)… (ياسمين) تروي الحكاية

 

النصيرات – هيا بشبش:

“أثناء التحقيق معي جعلوني أشاهد فيديو لصاروخٍ يفتت بيت عائلتي، كان هذا أصعب من كل الأذى الجسدي الذي تعرّضت له خلال الاعتقال، فكرة أنه لم يبقَ أحدٌ من العائلة مؤلم، أقنعوني أن زوجي استشهد، وفي كل مرّة أشاهد الفيديو يصيبني اليأس أكثر”.

بهذه الكلمات روت الشابة ياسمين مرشود (25 عامًا) ما تعرّضت له في سجون الاحتلال الإسرائيلي، بعدما اعتقلها أثناء مرورها على حاجزٍ يفصل شمال قطاع غزة عن جنوبِه.

في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023م، شنّ الاحتلال الإسرائيلي حربًا على قطاع غزة استهدف خلالها بيوت المدنيين بالقصف بالطائرات الحربية.

يوم 26 أكتوبر/تشرين الأول، طال قصف إسرائيلي بحزام ناري مسجد مجاور لبيت ياسمين في مخيم النصيرات وسط قطاع غزة، أدى لاستشهاد حماتها (والدة زوجها- 60 عامًا) وشقيقة زوجها آلاء (22 عامًا)، بينما خرجت ياسمين وباقي العائلة من تحت الركام، أخبرت ياسمين عائلتها بما جرى، فطلب والدها من شقيقها الذهاب لإحضارها إلى مدينة غزة، وتحديدًا حي الشجاعية حيث منزل عائلتها.

ياسمين : حكالي انتي تعالي والا رح أطخك إجري بسرعة

استقبلتنا ياسمين فيما تبقّى من شقتها – صالة المنزل فقط- لتروي ما حدث بعدما ألقت طائرات الاحتلال منشورات تطالب سكّان حي الشجاعية بإخلائه والتوجّه للجنوب، ولما أصرّت عائلتها على البقاء شجعها والدها على النزوح إلى زوجها جنوب القطاع، خاصة وأنها كانت عروسًا عندما اندلعت الحرب، لم يمضِ على زواجها سوى أسبوعين، فقد تزوجت من نهاد العبويني (26 عامًا) بتاريخ 21 سبتمبر/أيلول 2023م.

توجّهت ياسمين برفقة أخيها إلى الحاجز العسكري جنوب مدينة غزة، وطمأنها إنه سيبقى بانتظارها حتى إغلاق الحاجز في حال أرجعهم الاحتلال إلى غزة.

تكمل: “كان الحاجز مزدحمًا بالنازحين، صرخ جندي (انتي يلي قدام الولد اللي لابس بلوزة عليها رسمة، تعالي)، لم أكن أعلم أنه يناديني، وصرخ مجددًا وأشار نحوي، حكالي انتي تعالي والا رح أطخك إجري بسرعة)، فهرولت مسرعة بين تلال الرمل التي صنعوها كمنطقة احتجاز”.

ياسمين: اجهضت بسبب الخوف واجاني غضروف بسبب التعذيب في السجن

أحضرت ياسمين مجموعةً من الأوراق الطبية وقالت: “هذه تقارير تثبت حجم التعذيب الذي تعرضت له والذي تسبب في إجهاضي وغضروف في فقرتين في العمود الفقري، والكثير من العلامات التي طبعت على جسدي”.

تكمل: “إحدى التلال كان عليها علم أخضر، فعندما أعلمتهم باسمي ورقم هويتي، أمروني بالتوجه لها وهنا شعرت بالدم يغرق ساقاي، كنت حامل وبسبب الخوف أجهضت، توجّهت وأنا أجرّ ألمي إلى هناك، سألت أحد المعتقلين (شو رح يعملوا فينا، ردّ عليا وكلي أمرك لربنا)”.

تكشف ياسمين عن معصم يدها وتشير إلى علامةٍ لجرحٍ تم تغريزه، وتكمل: “هذا ما فعلته الكلبشات (أصفاد تقييد اليدين) في يدي، وهذا ما فعلته بقدميّ، وهي أول مراحل التعذيب، توجهتُ بعد التل ذو العلم الأخضر إلى بقعة بين التلال كما أمرني الجندي، يوجد ثلاثُ مجنّدات مسلّحات ملثّمات، وجيب عسكري داخله مترجم لما تطلبه المجندات، طلبن مني خلع ملابسي حتى الداخلية منها من أجل التفتيش العاري، بعد ذلك أمروني بلبسها”.

تكمل: “ضربتني إحدى المجنّدات على ظهري بالسلاح كي أركع على ركبتيّ، وكبّلت يداي وقدماي، لم يتهاونوا في تعذيبي رغم أنهم شاهدوني أعاني من نزيف نتيجة الإجهاض، إحداهن نزعت السلسلة الذهبية التي ألبسها ووضعتها في جيبها، بعد تكبيلي أمروني بالتحرّك وهم يحيطون بي، جرّوني إلى ما بعد الحاجز، قدماي مكبّلتان وحركتي بطيئة والضرب بالسلاح مستمر”.

تعاني ياسمين حتى الآن من الأرق والخوف الشديد نتيجة لما جرى معها أثناء الاعتقال، وتلاحقها الكوابيس الليلية في نومها.

يومٌ بأكمله في منطقة ما بعد الحاجز، تقبع ياسمين وعشر معتقلات أخريات بانتظار المجهول، أُمِرن بتغيير ملابسهن أمام بعضهن إلى زيٍ موحّد (بلوزة وبنطال فقط دون حجاب أو ملابس داخلية)، يومٌ كامل دون طعام أو شراب.

تكمل: “حين علمت المجندات بإجهاضي أحضرت إحداهن رغيف خبزٍ بداخله رمل وطلبت منّي تناوله، وحين رفضت ضربتني، بعدها اقتادوني إلى سجن زيكيم بواسطة باص، هذه المرّة كبّلوا إيدينا إلى الخلف، كان السجن عبارة عن قفٍص كبير قضيت فيه 8 أيام ثم نقلونا إلى سجن الدامون في الكرمل.

كانت الأسيرات الأحد عشر بينهن ياسمين معصوبات الأعين مكبّلات الأطراف، يناموا على الأرض أو مشطاحٍ خشبي (خشب صناديق البضائع)، وغطاءٌ واحد متسخ مليء بالرمل، يأكلن بعض حبّات الخيار والطماطم التي تُوضع في البداية عند باب القفص لتأكل منها الكلاب والثعالب ويصيبها المطر بالتعفّن ثم تُقدّم لهن.

ثمانية أيامٍ عوقبت خلالها ياسمين بوضعها ليومين في قفص داخله أسلاك شائكة لعدم إجابتها أسئلة المحقق، كان التحقيق يتم يوميًا، خاضته ياسمين سبع مرات وفي كل مرة يتم تفتيشها تفتيشًا عاريًا، في أحد المرات قال لها المحقق إن غزة عادت لما قبل أربعين عامًا، وخيّرها بين العودة إلى رام الله أو تل أبيب لكنها أجابت: “أرجعوني لغزة ولو عادت إلى ما قبل مائة عام، أريد أن أستشهد فيها”.

طوال فترة اعتقالها كانت ياسمين تعتقد إن عائلتها استشهدت وإنه لم يتبقَ لها أحد، خاصة أنها وبعد ثمانية أيام في سجن زيكيم نقلوها إلى سجن الدامون دون أن تصلها أي أخبار من محامي معتقلات الضفة الغربية الذين يتواصلون مع عائلات المعتقلات الغزيات، كانت ياسمين تتذكر رقم هاتف والدتها ولكن لا تعلم أن شبكة الاتصال مقطوعة تمامًا شمال قطاع غزة.

اعتقد والدا ياسمين بعد اعتقال ابنتها على الحاجز واختفاء أخبارها، إنها استشهدت، تواصلت العائلة مع اللجنة الدولية للصليب الأحمر الذي نفى علمه بأي معلومات عنها، بكت أمها أم هاني، ابنتها العروس وفرحتها التي لم تكتمل بجنينها الأول.

كانت أم هاني يخالجها شعور إن ابنتها على قيد الحياة، تقول: “لم أفقد الأمل، بعد ثمانية أيام أخبرنا الصليب الأحمر إنها معتقلة في سجن الدامون، حسب ما أخبرتهم المعتقلة عهد التميمي لدى خروجها من المعتقل ودخول ياسمين إليه، كانت العائلة على تواصلٍ مع زوج ياسمين والذي علم أيضًا إنها معتقلة في سجن دامون”.

أثناء سجن ياسمين نزحت عائلتها من منطقة الشجاعية شرق مدينة غزة إلي غرب المدينة داخل مراكز إيواء، تصف والدتها الحال: “حملنا حزننا على ابنتي ونزحنا من البيت إلي جامعة الأزهر غرب مدينة غزة، بعد بدء العملية العسكرية لجيش الاحتلال شرق مدينة غزة التي كان أولها قصف الطائرات والقصف المدفعي، أما عن نهاد زوج ياسمين الذي نزح من مخيم النصيرات إلي مدينة دير البلح داخل خيمة، فقد كان يُعلِمنا أخبارهم باستمرار بعدما عادت شبكة الاتصالات، وحين انقطاعها كنا نعلمه عن أخبارنا عن طريق النازحين إلي الجنوب”.

عودة لياسمين والتي وصفت معاناتها في سجن الدامون بقولها: “نحن من أوائل المعتقلات الغزيات، حتى معتقلات الضفة خرجن في أول يوم لنا هناك، تعرّضنا للضرب والإهانة والشتائم البذيئة من المجندات، الطعام كان عبارة عن بيضة فاسدة لا تصلح للأكل او طبق من الأرز متعفن وأسود اللون، أو معلبات منهية الصلاحية، ومن تعترض على الطعام تُعاقب بالضرب”.

لم تحصل ياسمين طوال فترة اعتقالها على الفوط الصحية إلا القليل منها، فهي تعرّضت للإجهاض وبحاجة ماسة لها، وكان الفارق المهم بالنسبة لها ولباقي المعتقلات هو الحجاب الذي سُمح لهن بلبسه، كانت ياسمين وزميلاتها الغزيات يتم معاملتهن بقسوةٍ واضحة، حتى وقت الفسحة هو 10 دقائق فقط.

10 يناير/كانون الثاني 2024م، تاريخٌ حفر في ذاكرة ياسمين، الساعة الواحدة ظهرًا نادت إحدى المجنّدات أسيرتين، وقالت لهن (رواح)، شعرت ياسمين بالسعادة لوجود أمل بالخروج لكن المجنّدة ردّت بقسوة (تفرحيش هم بشتغلوا بالاونروا)، دبّ الألم في قلبِها وأخذت بالدعاء لله، ما أن مضت خمس ساعات حتى نادتها مجنّدة أخرى لتقول (ياسمين مرشود يلا رواح).

ياسمين: حكولنا إجروا واللي ما بجري حنطخوا وفعلا في عمال تعرضوا لإصابات

من معتقل الدامون إلى زيكيم مرة أخرى، رحلة استغرقت يوم كامل انتظرت خلاله المعتقلات الثلاثة الباص الذي وصل الساعة الثالثة فجرًا، ويوم 12 يناير/كانون الثاني 2024م، وصلن مع مجموعة من العمال الذين تم اعتقالهم في الداخل الساعة 12 ظهرًا إلى معبر كرم أبو سالم جنوب قطاع غزة، وجّه الجنود أسلحتهم صوب الجميع: “حكولنا إجروا واللي ما بجري حنطخوا وفعلا في عمال تعرضوا لإصابات”.

ويخالف ما تعرّضت له ياسمين بنود اتفاقية جنيف الرابعة الخاصة بحماية المدنيين وقت الحرب، والتي تحظر في مادتها (3) الاعتداء على الحياة والسلامة البدنية، وبخاصة القتل بجميع أشكاله، والتشويه، والمعاملة القاسية، والتعذيب، كما تطالب في مادتها (90)، توفير جميع التسهيلات للمعتقلين من تزوبد بالملابس والأحذية وغيارات الملابس، وينص قرار مجلس الأمن الدولي رقم (1325) على حماية خاصة للنساء والأطفال وقت النزاع المسلح.

ياسمين: بعد شهر عرفوا أهلي انهم أفرجوا عني

وصلت ياسمين إلى مدينة رفح بعد ساعةٍ ونصف من المشي لا تملك شيئًا ولا تعرف أين تذهب، جلست مع إحدى صديقاتها التي عرضت عليها المبيت، لكنها طلبت وسيلة تواصل مع أي شخص عن طريق الانترنت فوجدت رقم صديق زوجها الذي قام بإخباره، آتى زوجها مسرعا واصطحبها معه إلى دير البلح، تقول:”بعد شهر علم عرفوا أهلي انهم افرجوا عني”، بعد عودة الاتصالات إلى شمال قطاع غزة، خرجت ياسمين ولكن قلبها ما زال ينزف وجعًا.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى