لهيب الطفح الجلدي يلاحق غادة في كل نزوح
غزة – نغم كراجة:
منذ نزوحها الأول قبل عامين؛ لم تفارق الأمراض الجلدية جسد غادة القصاص (47 عامًا) ولا أجساد أطفالها، حيث أن الحكة والطفح الجلدي والبقع الحمراء صارت رفيقهم الدائم في كل مكان حطّوا فيه.
تحت شاحنةٍ صدئة تحولت إلى مأوى في مدينة غزة، تنام غادة مع بناتها السبع وأولادها الثلاثة وأحفادها الخمسة والعشرين، قلقةً على حفيدها أحمد الذي لم يُكمل شهره الأول وقد بدأ جلده يتهيج قبل أن يفتح عينيه على الدنيا.
تقول غادة وهي تمسح دموعها: “هذه الحبوب والحكة لا تفارقنا حتى الرضيع لم يسلم منها، كلما نظرت إلى جلده الصغير شعرت وكأن المرض يلتهم حياتنا ببطء“.
منذ بدء الحرب الإسرائيلية على غزة في أكتوبر 2023م، أجبرتها الظروف على النزوح مرات متكررة، أولها إلى رفح حيث ظهرت أولى أعراض الطفح على جسدها وجسد ابنتيها منة الله (11 عامًا) وقمر (10 أعوام) ثم لاحقها المرض مجددًا عند عودتها إلى حي الشجاعية في يناير 2025م، حتى صار الطفح جزءًا من يومياتها المتعبة.
تستعيد تلك اللحظات قائلة: “جسدي كان يصرخ ألمًا، وابنتاي تبكيان ليلًا من شدة الحكة، كنت أبحث عن الدواء ولا أجده”.
آنذاك تواصلت مع عيادة وفّرت لها بعض الأدوية، وتعافت الأسرة نسبيًا غير أن عودتها إلى غزة كشفت حجم الدمار الذي لحق ببيتها في حي الشجاعية، واكتظت مراكز الإيواء بالنازحين، فلم تجد مأوى سوى خيمة أقامتها بين القبور شرق المدينة.
تروي بصوتٍ يخنقه القهر: “اضطُر أبنائي لحفر مكانٍ بين القبور لننصب خيمتنا، وأثناء الحفر وجدوا عظامًا بشرية متحللة، دفنوها في حفرة صغيرة بقلوب مرتجفة، شعرت أن الحياة والموت أصبحا وجهين لعملة واحدة“.
مع مرور الأيام، تفاقمت معاناة الأسرة، غزت الأفاعي المكان، وتكاثرت الجرذان، وظهرت حشرات غريبة، أصيب الجميع من أصغر طفل حتى الجد بطفحٍ جلدي جديد ترافَق مع بقع حمراء ملتهبة، ترجح غادة أن السبب هو: “تلوث المكان بالنفايات والجرذان التي كانت تزحف على أجسادنا ليلًا، هذه المرة لم يكن هناك علاج، المراكز الصحية خالية والصيدليات تبيع الأدوية بأسعار لا نقدر عليها“.
وتضيف غادة بمرارة: “لم يعد العلاج أهم من الطعام والشراب، فما جدوى الدواء إذا كنا لا نجد ماءً نظيفًا للشرب أو لقمة تسد رمق الأطفال؟ الأولوية عندي أن يبقوا أحياء لا أن تختفي البقع من أجسادهم.“
وعلى مدار أشهر النزوح الطويلة، كانت العائلة تعيش على مدخراتها القليلة، تصرفها بحذرٍ شديد حتى نفدت بالكامل، بعدها صار الأبناء يتدافعون يوميًا بحثًا عن قوت اليوم في طرقات ملوثة، تقول غادة: “تأمين وجبة واحدة بات معجزة بعدما كنا نعتمد على ما ادخرناه من أيام الرخاء، نفد كل شيء حتى الأمل، وبقينا نصارع الجوع بأعجوبة“.
بعد شهر ونصف من هذه المعاناة، خفت الأعراض الجلدية قليلًا لكن الراحة لم تدم طويلًا، ففي بداية أبريل 2025 اجتاحت قوات الاحتلال الإسرائيلي حي الشجاعية مجددًا، واضطرت العائلة للنزوح غربًا، يومان كاملان قضوها في الشارع قبل أن يجدوا مأوى تحت شاحنة متروكة حيث المكان غارق يغرق في القمامة وتغزوه الحشرات.
تقول بغصة: “تحت الشاحنة احتضنت أبنائي وأحفادي، خشيت أن أفقدهم واحدًا تلو الآخر، صرنا نعيش كما تعيش الحيوانات بلا سقف، بلا ماء، بلا حياة.“
قبل الحرب، لم تعرف غادة هذه المرارة، زوجها كان يعمل جزارًا ميسور الحال، وبيتها عامر، تحكي بصوت متقطع: “كنا نعيش برغد، لم أشته شيئًا ولم أمد يدي لأحد، اليوم لا أملك ثمن كيلو دقيق، وأتسول شربة الماء“.
تنظر إلى يديها وقد غطتهما بقع داكنة لتقول: “هذه العلامات على الجلد صارت رمزًا لمعركة البقاء التي فرضت علينا“.
ويمثل ما تعانيه أسرة غادة خرقًا لاتفاقية جنيف الرابعة التي تحظر في مادتها (49) الترحيل القسري، والمادة (55) التي تلزم دولة الاحتلال بتوفير الغذاء والدواء، وهو ما حُرمت منه غادة وعائلتها كما أن قرار مجلس الأمن 1325 يؤكد على حماية النساء في النزاعات، غير أن غادة وبناتها تُركن بلا مأوى ولا علاج.
تنظر مجددًا إلى جسدها وأجساد أبنائها وقد غطتها البقع الداكنة قائلة: “هذه الأمراض الجلدية صارت جزءًا من حياتنا، تلاحقنا في كل مكان نزحنا إليه، لا دواء يوقف الحكة ولا علاج يخفف الألم حتى صار الجلد مرآةً لمعاناتنا التي لا تنتهي“.
ورغم كل هذا السواد، تحلم غادة بأن تنتهي الحرب وأن تجد مأوى يحفظ حياتها. تقول: “أحلم فقط ببيت يأويني، لا أريد شيئًا من الدنيا سوى سقفٍ أعيش تحته بكرامة، لكنني أرى الحلم بعيدًا ما دامت هذه الأرض تعيش تحت رعب الاحتلال“.