مجزرة عائلة الكُرد أمٌ فقدت طفلها وزوجها: (حطّوا أحمد في حضن أبوه وادفنوهم سوا)

مجزرة عائلة الكُرد

أمٌ فقدت طفلها وزوجها: (حطّوا أحمد في حضن أبوه وادفنوهم سوا)

القاهرة – سالي الغوطي:

“حطّوا أحمد في حضن أبوه وادفنوهم سوا”.

ليست هذه جملةٌ من فيلمٍ حائز على جائزةِ أوسكار، ولا سطر في سيناريو كاتبٍ شهير، بل حقيقة عاشتها أسرةٌ في غزة، بعدما كانت تنعم بحياة هادئة مستقرة، ولكن كانت أعتابُ بيتِهم على موعدٍ مع صواريخ الاحتلال يوم 11 أكتوبر/تشرين الأول 2023م.

آمال: حطّوا أحمد في حضن أبوه وادفنوهم سوا

القصةُ بالكامل ترويها آمال الكرد (38 عامًا) حين استهدفت طائرات الاحتلال منزلهم في مخيم جباليا شمال قطاع غزة، في رابع أيام الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، التي اندلعت يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023م.

تقول آمال المكنّاة أم محمد: “أعيش أنا وأخواتي آلاء (37 عامًا) وبشرى (33 عامًا) في نفس البيت، فنحن سلفات (أي متزوجات من ثلاث أشقّاء)، مع أزواجنا وأولادنا، لكلٍ منّا حياة هادئة، نتشارك كل الأعمال والمناسبات، لا نبتعد عن بعضنا، حتى جاء صباح ذلك اليوم الأسود”.

أتى صوتُها مخنوقًا خلال محادثة صوتية عبر تطبيق ماسنجر وهي تواصل: “بتاريخ 11 أكتوبر/تشرين الأول، بعدما انتهينا من تناول الإفطار، بقيت أنا وأخواتي في غرفةٍ واحدة بجانب أطفالنا، وجلس الرجال في غرفةٍ مستقلةٍ في حديقةِ المنزل، واجتمع الأطفال للعب، ما هي إلا دقائق حتى ألقت طائرات الاحتلال الحربية صواريخًا على بيتنا، وأصبحنا على موعدٍ مع الموت”.

تنهّدت آمال بعمقٍ وزفرت بقوة وهي تروي كيف فتحت عيناها فجأة لتجد نفسها تحت الركام: “كانت أختي آلاء لسة عايشة، وابني يوسف ناداني من تحت الأنقاض يما مخنوق… كانت الستائر ملفوفة على وجهه، بدأت بإخراج رأسه وإبعاد الركام عنه حتى قدر يتنفس، وبجانبه ابن أختي كريم الدماء تغطي وجهه الصغير، كان يغيب عن الوعي وأنا أحاول إيقاظه، مش سهل تكون تحت الركام”.

نادت آمال على أختها بشرى التي كانت تتحدث إلى والدتها عبر الهاتف لحظة القصف، لم تُجب بشرى، ففهمت آمال إنها استشهدت، تكمل: “ناديت ابني أحمد (عامان) كان بلعب على باب الغرفة، سمعتُ أنينه، بس انقطع، كان ابني أحمد قبل القصف بلحظات جالس في حضني وبيبوسني، وبيقول بحبك يا ماما، وما عرفت إنها وداع، سمعنا أصوات الناس من حولنا فقلت لأختي في فتحة جنبك نادي منها، والتفت إلينا الناس”.

تقول: “كان هناك الكثير من الشهداء في العائلة، شاهدت ابني محمد (١٩عامًا)، والحروق والدماء تكسو جسده، كان محمد برفقة أبيه وعمه، وضعوا الجميع في العناية المركزة، ونقلوا محمد إلى مستشفى ناصر في خانيونس، وأختي آلاء إلى مستشفى الشفاء لبتر قدمها، سألت عن بناتي فاطمة الزهراء (١٢عامًا)، وسما (١٤عامًا)، كانتا بخير”.

انقطعت الكلمات، وبدأت الدموع تنهمر، مشاهدَ ألم وفراق تتمنى أن يكون كابوسًا، تكمل بحُرقةٍ: “طلبوا منّي التعرّف على الشهداء، كانت من بينهم أختي بشرى، وابنتها جوليا فوزي الكرد (عامان)، وابن اختي عبد الرحمن (14 عامًا)، لم يكن المشهد سهلًا عليّ، تذكّرت ابني أحمد، أخبروني أنهم ما زالوا يحاولون إخراجه، روّحت على أمل يطلّعوا ابني أحمد من تحت الركام، حضنت الجوال، الساعة 12 بالليل شفت صورته على الفيس بوك شهيد”.

ويخالف ما تعرّضت له عائلة الكرد نص قرار مجلس الأمن (1325) على ضرورة توفير حماية خاصة للنساء والفتيات وقت النزاع، كما يخالف بنود اتفاقية جنيف الرابعة الخاصة بحماية المدنيين وقت الحرب، والتي طالبت بحماية خاصة للنساء والفتيات.

بقلبٍ مبتور، ذهبت آمال في اليوم التالي إلى المستشفى، لتجد الجميع منهارًا، وهي تسرح في أفكارها، حتى أخبرها والد زوجها إن زوجها تيسير الكرد (39 عامًا) استشهد، تكمل: “دون وعي منّي قلت لهم حطوا أحمد في حضن أبوه وادفنوهم سوا”.

لم تنتهِ الحكاية، فمشاهد الألم والفراق لم تتوقف، رحلة علاج محمد بدأت من مستشفى إلى آخر، حتى أُعلن اسمه ضمن كشوف العلاج خارج قطاع غزة، لم تجد من يرافقه، فخرج بمفرده، وتشتت شمل العائلة، كان محمد دائم السؤال عن أبيه وإخوته، ولم تخبره أمه بما جرى، حتى عرف وانهار بالبكاء، لقد كان هو بمثابة الأب الثاني لأحمد. بعد أسبوعٍ عرف خبر استشهاد عمه فوزي ليلتحق بزوجته بشرى وابنته، فعقّب محمد: “كل اللي بحبهم راحوا”.

بالانتقال إلى آلاء التي كانت تبكي منذ بداية الحوار وهي تروي: “عايشة كل يوم حسرة أم ما ودعت ابنها الشهيد ولا حتى قدرت تزور قبره، لم أكن أستطيع التحرّك لخمسة أشهر، وأنا أعاني من الإصابة وبتر في قدمي، وحيدة لا أحد برفقتي، أبكي دائمًا وأتعرّض لنوبات سكّر، ولا أحد يستطيع تشخيص حالتي، حجم الإصابات كبير والعمليات تفوق قدرة الطواقم الطبية”.

تكمل: “أنا المسؤولة عن أبنائي وسام وعبد الرحمن وكريم، كنت الأب والأم لهم بعد انفصالي عن والدهم، وسام ذهب مع والده إلى بلجيكا قبل الحرب بثلاثة شهور، وبقيت مع عبد الرحمن وكريم، مش قادرة أنسى شكّل الدود وهو بيطلع من رجلي ولا ساعات تنظيفها بدون بنج لأنه مش متوفر، صرخاتي ما زالت حبيسة عقلي، مين يعيد لنا حياتنا، يا ريتني شهيدة بدل بتر رجلي والعذاب”.

بصوت مختنق تكمل: “فش كلمات توصف حجم الألم اللي عشته وقت نزول الصواريخ على بيتنا، والا لحظة ما طلعوني من تحت الركام وانا بغمض عينيا مش قادرة أشوف حجم الموت والدمار حوليا”.

وتبقى شهادات الفلسطينيين/ات في قطاع غزة، دليلٌ على الانتهاكات التي ارتكبها جيش الاحتلال الإسرائيلي بحق 2.2 مليون إنسان في قطاع غزة، منذ بدء حربه يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023م واستخدامه للمدنيين وخاصة النساء والأطفال وقودًا لاستمرار الحرب، وتحويلهم إلى ثكالى وأيتام ومصابين، فحسب تقديرات وزارة الصحة في قطاع غزة هناك نحو 16 ألف طفلة وطفل استشهدوا وأصبح 17 ألفًا أيتام الوالدين أو أحدهما.

تتدخل أم محمد بلهفة وتقول: “لم يجد محمد في مستشفيات مصر ما يناسب حالته، وسرعان ما تمّ تحويله إلى تونس بمفرده، أيقنت ضرورة أن أذهب فهو بحاجتي، خرجت أنا وأطفالي بتنسيق وتبعتني أختي آلاء مع ابنها من خلال تنسيق علاج حصَلت عليه بعد خمسة شهور من تقديم الطلب”.

فجأة وبينما الحوار يتواصل، فزِع من بالبيت، بعدما سمعوا صوت طرقات قوية على الباب، صوت الصواريخ ما زال مرعبًا لدرجة أن كل صوت أصبح يشبهها ويثير رعب العائلة.

تعود أم محمد لمواصلة الحديث: “قررت جمع شمل من تبقّى من العائلة، أولاد أختي الأيتام ما زالوا في غزة، ونجحت في إخراجهم إلى مصر، وبقيت أنتظر عودة محمد من تونس إلى هنا لمواصلة العلاج، بقي هناك (6) شهور دون فائدة، وكلّي أمل أن ينجح علاجه في مصر”.

تعود أم محمد بشريط الذكريات وتعلو نبرة صوتها وهي تستذكر: “كان محمد يحلم بإتمام الثانوية العامة بمجموع مرتفع ودخول كلية الشرطة الحربية، والده كان ينتظر هذا اليوم لأنه أول فرحتنا، ووعده بالكثير من الهدايا منها الذهاب إلى زيارة أهله في الأردن، وجهاز آيفون، لكن وحشية الاحتلال قتلت أحلامه وأحلامنا”.

تختم: “ما بفكّر أرجع على قطاع غزة حاليًا، ما بغامر بحياة الأطفال اللي ضلوا عايشين، كل ما أتمناه أن يستطيع الأطباء علاج محمد، حروقه تصنيفها درجة ثالثة، هو عكّاز العائلة الوحيد بعد وفاة والده، وبوابة فرحتي وعودتي للحياة مرة أخرى”.

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى