نساء “المواصي” تحت وطأة الفقر والإهمال والتهميش
غزة/ بقلم: هديل فرحات
“كانت بصعوبةٍ تجرُّ قدمها الجريحة وفي يدها قارورة ماء تسقي بها النعناع والميرمية والزعتر وبعض النباتات العطرية التي تزرعها أمام بيتها البسيط والتي لطّفت نسبيًا من الأجواء الحارقة، لقد استقبلتنا عند زيارتها بابتسامة ترحاب شقّت طريقها بصعوبة وسط تجاعيد وجهها المنهك”.
السيدة “إكرام” في العقد الخمسين من العمر، أم لثلاثة أبناء (فتاتان 17-16 وفتى 14 عامًا)، وزوجة لرجلٍ مريضٍ لا يقوى على العمل والحركة، تقول لنا: “الحال كما ترونه، فقر وبيت من متهالك مسقوف بالزينكو ويصبح مثل النار صيفًا وشديد البرودة شتاءً والإهمال يطال المنطقة كلها التي نسكنها”.
تقطن السيدة “إكرام” في منطقة “المواصي” الواقعة أقصى جنوب غرب محافظة رفح على الحدود مع جمهورية مصر العربية، وهي منطقة زراعية مهمشة تفتقر إلى أبسط مقومات الحياة والخدمات الإنسانية.
تعاني نساء هذه المنطقة البعيدة عن مركز مدينة رفح؛ سوء الخدمات، بدءًا من عدم توفر شبكات الصرف الصحي، واعتماد الناس على الحفر الامتصاصية التي تتسبب في انتشار الرائحة الكريهة والتلوث البيئي في المنطقة، إضافة إلى انتشار للحشرات والبعوض المسببة للأمراض، مرورًا بالطرقات غير المعبّدة وعدم وجود أسواق ولا محال تجارية، ناهيك عن الحاجة إلى السير لمسافاتٍ طويلةٍ وصولًا إلى الطريق العام كي يتمكن القاطنون هناك من التنقل من وإلى المنطقة.
“صدمتان متتاليتان تسببتا في حالتي النفسية السيئة، وفاة طفلي وبتر أصابع قدمي”، تسرد “إكرام” قصتها وهي تضغط على عينيها في محاولة لمنع دموعها التي خانتها في النهاية، وذرفت لدقائق قبل أن تمسحها بطرف يدها المجعّدة لتكمل: “أواجه صعوبة في السير أو الجلوس مع النساء بسبب ما باتت عليه قدمي بعد بتر أصابعها”.
حاولت “إكرام” إخفاء ملامح الحزن التي تكسو وجهها ببعض الابتسامات الباهتة، وهي تقول: “الحياة هنا صعبة، منطقة مهمشة وبيت رديء، ووفاة طفلي، والفقر ومرضي، ماذا تتوقعون مني؟”.
أغلقت نافذة الغرفة في محاولة للتخفيف من الرائحة الكريهة القادمة من الخارج، والتي ملأت فضاء بيتها الصغير ذو الجدران الداكنة القديمة في غرفه الثلاث، وكوّرت كفاها وهي تروي كيف تسبب وضعها المعيشي في وفاة ابنها الذي كان يبلغ 14 عامًا قبل أربع سنوات.
تقول: “أكره هذا البيت المفتوح من كل الجهات، هو سبب وفاة ابني، كان نائمًا وتعرّض لعضةٍ من حيوانٍ مجهول”، فمنطقة المواصي بيئة خصبة للحيوانات السامة والأفاعي والعقارب والحشرات، لذلك تصنف بأنها منطقة خطرة على السكان ولا تصلح للعيش الأدمي.
تكمل: “صحيت لقيت ابني مش قادر يتنفس، ووجهه أزرق، صحيّت أبوه يشوفه، نقلناه على المستشفى، ما تخيلت بيوم من الأيام أفقده، عاش أيام على الأجهزة ثم أخذ الله أمانته”.
عانت “إكرام” حالة نفسية سيئة كما تروي، سيطر عليها الحزن ودخلت في حالة اكتئاب، تسببت لاحقًا في إصابتها بمرض السكر، تقول: “كنت أجري إلى غرفة ابني أحمل ملابسه وأصرخ لا أصدق أنه مات، كان هادئًا مطيعًا، وكأي أم أريده أن يكبُر ويعيش حياة أفضل، لكن بدل ما أشوفه كبير دفنته بسبب ظروفنا”، وهنا أجهشت بالبكاء.
ومن وسط دموعها تتابع: “كان مفروضًا عليّ تجاوز الأزمة من أجل باقي أبنائي، أريد تحسين دخل البيت، عملت مشروع تربية دجاج”، لكن يبدو أن الحظ السيء أيضًا كان لها بالمرصاد.
في منطقة “المواصي” المهمشة، تعمل النساء في مجال الزراعة وجمع المحصول لتحسين ظروفهن الاقتصادية بهذه المهن الموسمية، بينما يعمل الرجال في الزراعة والصيد، لتبقى مسألة توفير حياة كريمة صعبة في منطقة تعاني الفقر والإهمال كما باقي المناطق المهمشة في قطاع غزة.
تتنهد بعمق وتطلق زفيرًا وهي تقول: “كنت ذاهبة لتفقد الطيور التي أربيها وأبيعها، وفي يومٍ شديد الحرارة اقتربت من القفص كالعادة، شعرت بألم شديد في قدمي، وفوجئت بمسمارٍ صدئٍ يشق أسفل رجلي، نقلوني إلى المستشفى وكانت صدمتي هناك”.
ساءت حالة السيدة “إكرام” التي لم يمر عام على وفاة طفلها؛ حتى تعرضت لصدمةٍ جديدة وهي التسمم الذي انتقل سريعًا إلى قدمها بسبب الحادثة واضطر الأطباء لبتر أصابع القدم خاصة أنها تعاني مرض السكر، هنا تدهورت حالتها النفسية، فهذه الحادثة تسببت في ضعف قدرتها على السير ومعها تدهور وضعها الاقتصادي أكثر ولم تعد قادرة على التنقل.
وبينما تروي لنا صعوبة قدرتها على العمل وحتى زوجها الذي تعرض لحادث سيرٍ أعجزه عن العمل، دخل ابنها البالغ حاليًا 14 عامًا عائدًا من عمله كصياد، تعقّب بحزن: “يعزّ عليّ أن يعمل ابني وهو في مثل هذا العمر، ولكن ما باليد حيلة، الحاجة تجعلنا نقبل، أعرف أنها عمالة أطفال لم أتمناها لابني وأتمنى أن تتحسن ظروفنا ويتوقف عن العمل”.
أنهت السيدة “إكرام” حديثها المؤلم ما بين آلامها وحزنها على ابنها ورسمت ابتسامة حاولت أن تجعلها واسعة، بينما تقصّ حزمةً من النعناع وبعض النباتات العطرية، وهي تقول: “هذه هدية مني لكم، ما بحب أشرب الشاي إلا بالنعناع البلدي”، ورغم وضعها المعيشي السيء تحاول البحث عن سعادة مفقودة في منطقتها المهمشة.
وتعاني العديد من المناطق المهمشة والحدودية في قطاع غزة من الإهمال والتقصير وانعدام الخدمات المنوطة بالحكومة وجهات الاختصاص من بلديات ومؤسسات رسمية وغير رسمية، غالباً ما يشكوا السكان من عدم تدخل البلديات التي تتنصل بدورها عن تقديم الخدمات مبرره ذلك بعدم تبعية تلك المنطقة المهمشة لها وفي المقابل لا تشمل خطط الحكومة إعادة تطوير هذه المناطق ويقتصر عملها في الغالب على ازلتها دون معالجة إشكاليات السكان، يضاف الى ذلك تقصير الجهات الحكومية في تقديم الحماية والمساعدة للفئات السكانية المهمشة والفقيرة في تلك المناطق وخصوصاً من النساء المعيلات أو المرضى الذين يعانون من الفقر الشديد.
تم إنتاج هذه المادة ضمن مشروع “تحسين مستوى الحماية للنساء والشباب من العنف القائم على النوع الاجتماعي – مساحاتُنا الآمنة” الذي ينفذه مركز الإعلام المجتمعي بالشراكة مع مؤسسة تير دي زوم – سويسرا”.