ذاكرة منال محاصرة بجريمة اجتياح (ناصر)
ذاكرة منال محاصرة بجريمة اجتياح (ناصر)
خانيونس- أنغام يوسف:
بصمتٍ، كانت منال الأسطل (25 عامًا) تقلّب صور والدتها على هاتفها النقّال، مستذكرة الرعب الذي عاشته خلال مرافقتها لها بمستشفى ناصر، عندما اجتاحها جيش الاحتلال الإسرائيلي ونكّل بالجميع، بينما لم تصمد أمها كثيرًا بعد هذا الحدث، وفقدت حياتها!
تتنهّد منال وتقول: “كانت أمي تعاني من التليف الرئوي، بقيت لفترة داخل قسم الباطنة بمجمع ناصر الطبي في مدينة خانيونس، وحينها حدث الاجتياح للمستشفى”.
منذ شنّ الاحتلال الإسرائيلي حرب إبادة على قطاع غزة يوم 7 أكتوبر 2023م، حرصت عائلة منال التي تعيش في مدينة خانيونس، على أخذ التدابير اللازمة لضمان حياة والدتها التي تعاني التليّف الرئوي منذ ثمانِ سنوات.
توضح: “تحتاج أمي لأنابيب أكسجين، حاولنا توفير بعضها بسرعة، الوضع كان يشتدّ صعوبة مع استمرار الحرب، وتخوّف أصحاب عربات النقل (التكتوك) من الاستهدافات الإسرائيلية خلال نقل أنابيب الأكسجين لتعبئتها من مجمع ناصر الطبي الذي تتوفر فيه محطة توليد الأكسجين، وهذا جعلنا ننزح إلى المستشفى لضمان البقاء والعلاج”.
حين نزحت عائلة منال إلى المستشفى كانت والدتها تعاني من الجفاف، وتتلقى العلاج على كرسيٍ لعدم وجود فائض في الأسرّة التي اكتظت بالمصابين، لكن منذ بدأت التحرّكات الإسرائيلية في محيط المستشفى، تغيّر كل شيء.
“يوم 15 فبراير 2024م، اجتاح جيش الاحتلال المجمّع، غالبيةُ المرضى والنازحين غادروا خوفًا على أرواحهم، خرج الناس دون مقوّمات حياة نحو المجهول، ولم يتبقَّ في المستشفى سوى الحالات الحرجة جدًا ومرضى شلل رباعي ومصابين لا يستطيعون المشي”، تقول منال.
أصبح الوضع مرعبًا، بينما تحيط الدبابات بالمستشفى، نادى جنود الاحتلال عبر مكبّر الصوت على رئيس مجمّع ناصر الطبي د.عاطف الحوت، وطالبوه بالخروج، ثم أبلغوه بعزل المرافقين عن المرضى.
تنخرط منال في البكاء وهي تكمل: “تجمّد الدم في عروقي، شعرت بالرعب والقلق، أمي لا تستطيع أخذ ما تبقّى من علاجٍ بنفسها، قررت البقاء معها حتى آخر لحظة، حضر الدكتور وطلب مني المغادرة لضمان ألا يؤذيني جيش الاحتلال، خرجت من الغرفة والدموع تغرق وجهي، ودّعت أمّي وهي تناديني ألا أتركها”.
تقطّعت أنفاس منال ثم مسحت دموعها بكفها وتابعت: “خرجت من المبنى تحت المطر والبرد الشديدين، أجلسونا على كراسي مبللة بماء المطر، وبدأ الجيش بإلقاء أوامره بالتوّجه إلى مبنى آخر اسمه مبنى مبارك، عبر حاجزٍ وهمي طاولتين وجهاز تفتيش كهربائي، كل ثلاث أشخاص معًا”.
تضع الشابة يديها على عينيها وهي تحكي بمرارة كيف تعرّضوا للشتم بألفاظٍ فيها قذف واستهزاء، ورؤيتها للجثث المتحللة على الأرض تنهشها الكلاب دون أن تجد من يدفنها، كما أجبر الجنود الرجال على خلع ملابسهم دون مراعاة لحرمة الجسد والعورة والبرد، كانوا ممنوعين من النظر أو الحركة.
تكمل: “رئيس المستشفى كان هو حلقة الوصل بين الناس وجنود الاحتلال، منعونا من الخروج من مبنى مبارك الذي نتواجد فيه، أو حتى معرفة مصير المرضى الذين تم عزلهم دون مقومات رعاية أو علاج أو طعام، بعد اليوم الرابع فقط سمحوا لنا بالزيارة مدّة ساعة ونصف، وعرفت أنه تم نقلها إلى المستشفى الميداني الإماراتي في رفح، ثم إلى المستشفى الأوروبي”.
لم يتوقّف القمع عند هذا الحد، بل إنه طال الطواقم الطبية والمرضى، فبعد نقلهم إلى مبنى مبارك، اعتقل جيش الاحتلال كما تقول منال 80 من الكوادر الطبية والمصابين، وبعد 15 يومًا من الاجتياح أعطى الجنود كل شخص عبوة مياه واحدة (لتر ونصف) والقليل من الطعام.
شهدت منال استشهاد مصابين نتيجة أساليب التحقيق معهم، وآخرون تم رفع أجهزة عنهم مثل قسطرة البول دون مراعاة حاجتهم الصحية، حاول بعض المرافقين خلال الزيارة التي كانت ساعة ونصف إعادة تنظيف أجساد ذويهم خاصة مرضى الشلل، أو تقليب أجسادهم خوفًا من التقرحات وإعطاء مصابي البلاتين المسكنات لأنهم تعرضوا للضرب على جروحهم بشكلٍ مباشر.
ويخالف ما تعرّض له المرضى اتفاقية جنيف الرابعة بشأن حماية المدنيين وقت الحرب، وخاصة المادة (16) بأن يكون الجرحى والمرضى موضع حماية والقيام بإجراءات بشأن حماية الأشخاص المعرضين لخطرٍ كبير وحمايتهم من السلب وسوء المعاملة، كما تنص المادة (19) على حماية المستشفيات ولا يجوز وقف الحماية الواجبة لها.
بعد 15 يومًا، انسحب جيش الاحتلال من المستشفى مؤقتًا، فقررت منال وبعض الأشخاص معها الخروج، اتجهت إلى الخيام مع عائلتها في منطقة مواصي خانيونس غرب المدينة.
تقول: “كان الانسحاب مفاجئًا، خرجت بحثًا عن مصير أمي ومشيت مدّة ساعتين حتى المواصي، وبعدما مكثت في الخيام ثلاثة أيام، استكملت رحلة مرافقتي لأمي في علاجها، لكن في المستشفى الأوروبي تكرر معي نفس ما حدث في ناصر، نقص علاج واكتظاظ وقلة أسرة ثم أمر إخلاء من الاحتلال”.
قررت منال العودة مع أمها إلى مستشفى ناصر لمواصلة العلاج، لكن تعرَضت أمها مجددًا لأزمة نقص العلاج التي يعانيها القطاع الصحي في قطاع غزة، حتى توفت بتاريخ 15 يونيو 2024م، تختم منال: “عانينا كل هذا من أجل الحفاظ على حياة أمي وفي النهاية توفت بسبب نقص العلاج”.