من تلة قليبو الى مواصي رفح، أم اسماعيل تقبع في خيمة النزوح في انتظار رجوعه من المعتقل

محمود جودة- رفح

مُختلفٌ كان إسماعيل صاحب الستة عشر عامًا، مُختلف بفكرته عن الدنيا والمدينة والأصدقاء، النَّبيه كما كان يحلو لخاله أحمد أن يُسميه، هذا الخال الذي تحدث بقلب الأب والأخ الكبير عن اسماعيل في طفولته وكيف صار فلاحًا مُتمرسًا فقام بتصميم ريفه الخاص حيث اهتم بتربية الأغنام والأرانب، والكثير من الدجاج والبط، وزرع مساحة الأرض التي اشتراها والد اسماعيل قبل وفاته في منطقة تُسمى “تلّة قليبو” شمال قطاع غزة، فحولها الابن إلى واحة عامرة بالخضرة، فهذه الأرض كانت هي حقيقة الأشياء بالنسبة إلى إسماعيل الذي كان يتنظر انتهاء الدوام المدرسي حتى يتجه نحو الأرض يشمها ويراعي أشجارها ودوابها وعطش الرمل الأحمر فيها.

مُختلفٌ كان إسماعيل، وهو المتفوق في عِلم الإلكترونيات، ومتفوق في ممارسة الألعاب الإلكترونية، والطامح بأن يُصبح “يوتيوبر” كبير كما كان يُعد فجهز غرفته بالكاميرات وأجهزة الصوت وكل ما يحتاجه الإنسان ليخرج فيلمًا حقيقيًا ومقتنع.

مُختلفٌ كان اسماعيل، وكل شيء اختلف في غزة بعد السابع من أكتوبر 2023، حيث تبدل الحال والأحوال وجغرافيا الأرض، كانت أصوات الانفجارات عنيفة، حممٌ شديدة وتهديداتٌ أكثر حدّة تنطلق عبر شاشات الهواتف النقالة، ثلاثة أيام فقط بعد السابع من أكتوبر، وبينما ينام اسماعيل في صالون بيته، سُمع دوي انفجار تناثرت له أشياء المنزل، وبعد وقت من البحث والتواصل بين أفراد العائلة، عَرف الجميع أن المنزل قد انهار وأن الجميع بفضل الله قد نجو من الموت.

لم ينتظر أحد من أسرة إسماعيل البقاء، خاصة أمه التي تعرف كم يعز ذلك على إسماعيلها أن يترك جنته الصغيرة في “تلَّة قليبو” ومُستقبله الذي بقي حبيس الغرفة والأمنيات .. وهرب الجميع إلى منطقة الفالوجة شمال القطاع، بقوا هنالك حتى نهاية شهر أكتوبر، حيث رفضت الأم أن تنتقل إلى مراكز الإيواء وهي تعلم كم فيها من بؤس وذل وموت يومي، لكن الحديد الطائر هذه المرة لم ينتظر كثيرًا ليقتل فكرة البقاء في بيت الجد، فقصفت بيتًا مجاورًا له، وكأن زلزالا كبيرًا حصل، ثم بدأ القصف العشوائي للحي كله فتناثر بيت العمّة، كل هذا وإسماعيل ينجو من موت محقق، لكن أخاه الكبير “دياب” قد قتل برصاص الاحتلال في الثلاثين من أكتوبر، توجع إسماعيل وأمه زاهرة كان الوجع مختلف هذه المرة، لم يجربوه أبدًا، وجع مُركب بدأ بقصف المنزل الخاص ثم منزل الجد ثم منزل العمّة، ثم الانتقال حاملين كل هذا الألم إلى المشفى الإندونيسي شمال قطاع غزة لتوديع الأخ الأكبر، حصل كل هذا بشكلِ لا يمكن وصفه، المهم هنا أنه حدث ونتج عنه قرار الإخلاء الكلي من شمال قطاع غزة إلى جنوبه بعد فقدان كل سبل الحياة والبقاء.

في النزوح هذا خطر كبير، يحتاج إلى خطة ومجازفة لأن الاحتلال يقول أن هذا الممر آمن، وكل “آمن” يعطيه الاحتلال هذه الصفة يصبح أكثر الأماكن خطورة، تجمعت أسرة إسماعيل وجدّه، بالإضافة إلى أسرٍ قليلة شجعت بعضها بعضًا لخوض هذه التجربة المريرة ليجتازوا الحاجز الفاصل بين جنوب قطاع غزة وشماله، هذا الحاجز المزروع بالدبابات والقناصة وكاميرات المراقبة.

التعليمات واضحة، ممنوع حمل أي أمتعة عند مرور هذا الحاجز، ومن يخالف يموت هكذا بكل بساطة وبرود، لهذا لم يُلزم إسماعيل نفسه بأي أمتعة واكتفى بدفع الكرسي المتحرك الذي يجلس عليه عمه ضياء المريض بالفشل الكلوي لأن حالته قد تفاقمت بشكل كبير جراء تدمير المستشفيات مما أدى إلى تورم قدميه ودفعه عبر كرسي متحرك .. بينما يدفع إسماعيل الكرسي المتحرك سَمع الجندي على الحاجز العسكري يُنادي :” إنت ولا تعال” لم يلتفت اسماعيل كثيرًا للنداء، فهي صيغة عامة، فكرر الجندي المُناداة بشكلٍ أكثر حدة :” ولا بنادي عليك أنت تعال” فرد اسماعيل بصوته الطفولي : أنا؟!” فقال الجندي: “آه أنت!” فرد إسماعيل :”ما بقدر عمي ما في حدا معه يزقه” فهدد الجندي أكثر، مما دفع اسماعيل إلى الذهاب لمعرفة الأمر، ومن وقتها وقد اختفى اسماعيل تمامًا.

حسب من رافقوا إسماعيل في طريق النزوح، فقد تم اعتقاله وتجريده من ملابسه والاعتداء عليه بأعقاب بالبنادق وشتمه بألفاظ قذرة باللغة العربية والعبرية، ثم اختطفوه إلى سجون الداخل المحتل، لا أحد يعرف كيف هو حال إسماعيل الآن، لكننا نعرف كيف حال أمه التي بقيت تذهب طيلة شهر كامل نحو منطقة الحاجز الإسرائيلي تنظر في وجوه المفرج عنهم وتسألهم عن إسماعيل وتعطيهم أوصافه، وبينما تبحث الأم عن ولدها، مات أخيها ضياء الذي كان اسماعيل يدفع بنجاته عبر دفع كرسيه المتحرك ليصل به إلى مشفى في جنوب القطاع، الآن تخوض الأم حربها الخاصة، بين ولدها دياب المدفون في شمال القطاع الذي يُمنع اجتياز حواجزه، وأخيها المدفون في جنوبه، وولدها الذي لا أخبار مطمئنة عنه تُبرد ولو قليلًا من النار التي تشتعل في العقل وما بقي من جسد يناطح كل أسباب الموت من أجل معلومة واحدة، يا لعظيم الأمنيات وألمها، تقبع الأم الآن برفقة ولديها الاثنين في خيمة في مدينة رفح ترسل الدعاء كل صباح ومساء للسماء لتبعث لها بخبر عن ولدها الغائب اسماعيل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى