صواريخ مرت على أحلام أطفال وبعثرتها للأبد
صواريخ مرت على أحلام أطفال وبعثرتها للأبد
خانيونس- دعاء برهوم:
يوم 3 ديسمبر 2023م، انتهى حُلم الطفلة (سيلا) الذي خطّته بأنامِلها الصغيرة منذ بدأت التعلّم في صف البستان داخل رياض الأطفال المجاور لمنزلها!
سيلا أبو عقلين (6 أعوام)، طفلة فلسطينية كانت تسكن مع عائلتها في حي الزيتون شرق مدينة غزة، حتى شنّت قوات الاحتلال الإسرائيلي حرب إبادة منذ 7 أكتوبر 2023م، وأجبرت سكّان شمال قطاع غزة على النزوح إلى جنوبه، لكن عائلة سلام ظلّت في بيتها، وفي ديسمبر 2023م، تعرّض منزلهم لقصفٍ أدى لاستشهاد عائلتها، وبقيت هي ناجيةٌ وحيدة، لكن بقدمٍ مبتورة، وحُلم مبتورٍ أيضًا.
تقول سيلا: “لما دخلت الروضة، سألتني المعلمة عن حلمي، جاوبتها نفسي أصير محامية زي خالتي هنادي، وألبس روب المحاماة الأسمر، وأكون محامية شاطرة، لكن انحرمت من حلمي”.
بالدموع، تروي سيلا كيف كانت تعيش مع عائلتها بهدوءٍ في منزلهم، لكن منذ اندلاع الحرب لم تهدأ العائلة، من نزوحٍ إلى نزوح، “ماما كانت تخاف علينا وتحاول توفر لنا الأمان، لكن صواريخ الاحتلال لم ترحمنا، قتلت بابا، وماما، وخواتي لي لي (عامان) وصبا (5 أعوام) وأنا راحت رجلي”، تقول سيلا.
تعيش الطفلة حاليًا مع جدّها وجدتها في حي الزيتون، وتعاني أوضاعًا صحيةً ونفسيةً صعبة، خاصة أنها فقدت قدمها اليسرى، وهو ما أثّر سلبًا على حالتها النفسية، فأصبحت تمارس حياتها اليومية بشكلٍ مختلف عن أقرانها.
“أحلامي مبتورة مثل قدمي، أحاول أن أتكيف مع الوضع الجديد، بلا قدم، ولا عائلة، لكن صعب جدًا، ما يهمني الآن هو التحويلة الطبية خارج قطاع غزة، لتركيب طرفٍ صناعي عشان أقدر أعيش حياتي بشكل أفضل”، تروي سيلا وهي تلتفت صوب جدّتها التي تقوم على رعايتها.
في قطاع غزة، اختطفت الحرب أحلام آلاف الصغار، ممن بُترت أطرافهم وتبدّلت حياتهم نحو المعاناة المستدامة، ووجدوا أنفسهم في مواجهةِ تحدياتٍ لا طاقة لهم بها.
على كرسيٍ متحرك، يجلس الطفل ياسين الغلبان (11 عامًا)، أمام باب خيمته في أحد مخيمات النزوح بمواصي خانيونس جنوب قطاع غزة، ينظر من بعيدٍ إلى أصدقائه الذي يلعبون أمام عينيه، يتفحّص الجزأين المبتورين في جسده (قدميه)، وفي رأسه ألف سؤال.
يقول ياسين: “يوم 7 أكتوبر كنت أتجهّز للذهاب إلى المدرسة، وعند سماعنا صوت القصف اعتقدنا إنه رعد، ومع حمم الصواريخ التي سقطت على رؤوس المواطنين حُرمنا من مواصلة التعليم”.
يتنهد بعمقٍ وهو يعيد النظر إلى أطفال في مثل سنّه يلعبون كرة القدم، ويتابع: “كنت مشتركًا في نادي رياضي بمدرسة معا الابتدائية، وحصلت على ميداليات عند نهاية مباريات لعبة كرة القدم التي تنظمها المدرسة”، يمسح دموعًا سقطت من عينيه وهو يكمل: “حرمني الاحتلال من حلمي في مواصلة لعبتي المفضلة”.
يوم 22 ابريل 2024م، كان ياسين يلعب وسط مخيمٍ يقطنه مع عائلته بعد نزوحٍ عدة مرات من منطقة معًا التي يسكنها شرق محافظة خانيونس، وإذ بصاروخٍ ينطلق من طائرة حربية إسرائيلية يسقط بجواره متسببًا في بتر قدميه، الأمر الذي جعله حبيسًا للكرسي المتحرك وهو في هذا السن الصغير، ويقضي على حُلمه للأبد.
احمرّت عينا الطفل وهي يبكي قهرًا ويكمل: “تمنيت أن أصبح لاعب كرة قدم مشهور، مثل رونالدو وميسي، تبدد حُلمي وأصبحت بلا أقدام، غير قادر حتى على المشي لأكمل حياتي كباقي أطفال العالم”.
تسقط الدموع مجددًا من عينيه وهو يختم: “أتمنى أن أُعالج خارج قطاع غزة من أجل تركيب أطراف صناعية تساعدني على إكمال مشوار حياتي”.
ويخالف ما يتعرض له الأطفال في قطاع غزة، اتفاقية جنيف الرابعة الخاصة بحماية المدنيين وقت الحرب، والتي نصت في مادتها (16) على حق الجرحى في الحماية والحصول على الرعاية الطبية التي يحتاجونها، لكن الأطفال في قطاع غزة، مرّوا بظروف مؤلمة حرمتهم من حقهم في تلقي الرعاية الطبية، بعدما سحقت صواريخ الاحتلال أحلامهم، وما زالت.
وتشير تقديرات وزارة الصحة الفلسطينية، إلى أن الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، تسببت في 4700 حالة بتر، من بينها 850 طفلًا، لا تتوفر لهم أطراف صناعية ومتطلبات العلاج اللازمة في قطاع غزة، الذي تحاصره قوات الاحتلال بشكلٍ كامل.
الطفل إسلام الفيراني (8 أعوام)، أفضل حظًا من سابقيه، فهم فقدوا أطرافهم وما زالوا محاصرين في قطاع غزة، أما هو، فقد حصل على تحويلة طبية وحاليًا يتلقى العلاج في المستشفيات الأمريكية لتركيب طرفٍ صناعي لقدمه المبتورة.
يقول إسلام خلال مقابلة الكترونية: “ساعتان ونصف وأنا تحت أنقاض منزلنا في معسكر الشاطئ غرب مدينة غزة، بعد أن قصفته طائرات الاحتلال الإسرائيلي يوم 22 نوفمبر 2023م، حتى تمكن عناصر الدفاع المدني من إخراجي”.
بعدما تم نقل الطفل إلى مستشفى الشفاء بمدينة غزة، وتم بتر ساقه، تعرّض المشفى للحصار الإسرائيلي مدة أسبوعين، تم خلالها نقل إسلام إلى مستشفيات جنوب قطاع غزة، وبدأت معاناته مع الإصابة والنزوح المتكرر حتى حصل على تحويلة طبية للعلاج خارج قطاع غزة.
يعاني إسلام الذي بترت ساقه اليمنى من ظروفٍ نفسيةٍ سيئة، رغم أنه في المراحل الأخيرة من تلقيه للعلاج، لكن المأساة لا تنتهي عند هذا الحد، فحزن قلبه يزداد يومًا بعد يوم.
تحشرج صوت إسلام وهو يختم: ” التحقت قبل الحرب بدورة سباحة لأتمكن من الغوص في أعماق البحر، كنت أحلم بأن أُصبح سباحًا ماهرًا، وأكتشف ما داخل البحر، لكن الحرب دمرت كل شيء”.