مرضى الكلى في القطاع… حكم بالموت البطيء
مرضى الكلى في القطاع… حكم بالموت البطيء
خانيونس- دعاء برهوم:
بعيونٍ دامعة وجسد مرهق، يجلس الشاب حاتم الأسطل (38 عامًا) على الكرسي الخاص بجهاز غسيل الكلى، في مجمع ناصر الطبي بمدينة خانيونس جنوب قطاع غزة، ينظر إلى دمه المُعاد تكراره في الجهاز، يتألم بصمت، فمصيبته باتت أكبر في ظل الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة.
يمسح الشاب دموعًا بللت مقلتيه وهو يقول: “أصبت بالفشل الكلوي في سنٍ مبكرة، وفي الحرب، انقطعت عنّي أدوية الضغط بسبب إغلاق معابر قطاع غزة، ومع عدم المتابعة لصحتي، تسبب ذلك في مضاعفات جسدية وضمور في الكلى”.
منذ بداية الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة يوم 7 أكتوبر 2023م، يعاني حاتم كما غيره من مرضى الفشل الكلوي، من صعوبة في متابعة وضعهم الصحي ونقص الأدوية والمستلزمات الطبية نتيجة للحصار الإسرائيلي، ما تسبب في تقليص جلسات غسيل الكلى للمرضى، ونقص الأدوية، ناهيك عن معاناتهم في ظل استمرار النزوح.
يقول الأسطل الذي لم يكن بحاجة لجلسات غسيل الكلى قبل الحرب:” خلال نزوحي من مدينة رفح جنوب قطاع غزة، تدهورت صحتي أكثر، حتى أصبحت لا أرى، ولم أعرف ما الذي يحدث لي، وبعد عودتي إلى خانيونس اكتشفت خطورة حالتي الصحية”.
في أغسطس 2024م، بدأ حاتم جلسات غسيل الكلى، التي تستمر لثلاث ساعات ولمرتين أسبوعيًا، عوضًا عن ثلاث جلسات أسبوعيًا بواقع أربع ساعات مقررة لكل مريض، فالمدة الحالية لا تكفي لتحسّن حالة المرضى وسحب السموم من الجسم.
يقول حاتم: “أخرج من خيمتي في منطقة مواصي خانيونس غرب المدينة، الساعة الخامسة صباحًا سيرًا على الأقدام ساعة كاملة، لأتمكّن من الحصول على مواصلة في ظل صعوبة المواصلات، فالمتاح حاليًا هو عربات تجرّها الدواب، وتأخذ وقتًا طويلًا حتى تصل للمستشفى في الوقت المحدد لجلسة غسيل الكلى”.
بألمٍ وحزن يقول: “لا نجد ما نأكله ليقوّي مناعتنا، أصبحت أمعائي خاوية، لا أجد سوى المعلّبات التي تزيد السموم في الجسم لوجود مواد حافظة، حتى المياه المعدنية لا أجدها، فالمياه العادية تنهش الكلى وتدمرها”.
خسر الشاب خلال رحلة علاجه 20 كيلو جرامًا من وزنه، منذ بدأ جلسات غسيل الكلى، فالوضع الصحي وشحّ المواد الغذائية والنزوح المتكرر تسببا في تدميره صحته.
بعيونٍ أذبلها التعب يختم: “أتمنى الحصول على تحويلة طبية خارج قطاع غزة لإجراء عملية زراعة كلى، وأعود لأسرتي وأطفالي الثلاثة الذين يتمنون شفائي”.
يحاصر الموت المرضى في قطاع غزة، فانقطاع الأدوية والماء وتقليص عدد جلسات غسيل الكلى، أدى إلى وفاة المواطن محمد مهدي (52 عامًا)، تاركًا خلفه زوجته منى (40 عامًا)، تتجرع ويلات الفقد والنزوح.
تتلعثم الكلمات على شفتيها وهي تقول: “محمد أصيب بالفشل الكلوي منذ ثمانية سنوات، وبدأ جلسات الغسيل في مستشفى الشفاء بغزة، لكن منذ اندلاع الحرب تغيّر مسار حياته تمامًا، نزحنا أكثر من مرة، وازدحم قسم غسيل الكلى في مستشفى أبو يوسف النجار حين نزحنا إلى رفح، فتدهورت صحته”.
تتنهد وتمسح دموعها ثم تكمل: “دخلنا دوامة لا نهاية لها، عدد جلسات غسيل الكلى تقلصت، بسبب العدد الكبير من المرضى، ونزوحنا إلى مواصي خانيونس وبدء جلسات الغسيل في مستشفى ناصر جعلنا ننتظر لساعات حتى يأتي دورنا”.
نزحت منى مع زوجها وأبنائها الستة من بيتها في حي النصر غرب مدينة غزة إلى جنوب القطاع، منذ بداية الحرب حينهم أجبر الاحتلال سكّان شمال القطاع على ذلك.
عانت منى كثيرًا مع زوجها جراء انقطاع بعض الأدوية المخصصة لمرضى الكلى، وسوء التغذية والإرهاق الشديد الذي يصاحب زوجها جراء السير لمسافات طويلة من أجل الوصول إلى المستشفيات، في ظل صعوبة المواصلات، التي أثّرت على صحتهن فتدهورت حالته مما أدى إلى وفاته.
تختم: “بعد ثلاثة أسابع من عودتنا إلى غزة، في 21 مارس 2025م، توفي زوجي بعد معاناة مع المرض والتعب الذي رافقه خلال رحله النزوح وتقليص جلسات غسيل الكلى، وحياة الخيام وسوء التغذية”.
يقول مدير مجمع الشفاء الطبي د.محمد أبو سلمية، أن عمليات غسيل الكلى تقلصت في مستشفيات قطاع غزة إلى مرتين بدلًا من ثلاثة، بسبب عدم توفر المياه العذبة والوقود اللازم لتشغيل مولدات الكهرباء.
وبيّن أن الاحتلال الإسرائيلي دمّر أكبر أقسام الكلى في مجمع الشفاء الطبي، إضافة إلى مركز نور الكعبي الخاص بهم شمال القطاع، ما أثّر سلبًا على حياة آلاف المرضى، وجعلهم تحت الخطر، موضحًا إن 1200 من مرضى الفشل الكلوي في قطاع غزة كانوا قبل الحرب موزعين على كافة مستشفيات القطاع، والآن باتوا يفقدون حياتهم تباعًا، حتى إن 40% فقدوا حياتهم خلال الحرب بسبب إغلاق المعابر ونقص الأدوية والحصار.
ويتنافى ما يعانيه المرضى في غزة مع اتفاقية جنيف الرابعة الخاصة بحماية المدنين وقت الحرب، خاصة المادة (16) التي نصت على أن الجرحى والمرضى والعجزة والحوامل موضع حماية واحترام خاصين”، وتحظر المادة (18) الهجوم على المستشفيات التي تقدم الرعاية للمرضى والجرحى، وتؤكد المادة (23) من الاتفاقية ذاتها على حرية مرور جميع الأدوية والمهمات الطبية إلى المدنيين.
وختم أبو سلمية، أن النظام الغذائي السيء أحد أسباب تفاقم الوضع الصحي للمرضى، فجميع سكان القطاع يعتمدون على المعلبات والبقوليات التي تؤدي إلى ارتفاع وظائف الكلى وتراكم السموم، مما ينعكس على صحتهم.