كوابيس تلاحق إسراء فَقدٌ ونزوحٌ ودمار البيت
النصيرات – سهاد الربايعة :
“صرختُ رعبًا حين رأيتُ شقًّا في الأرض، والنيرانُ تشتعل في الطابق الأرضي لبيتي حيث ينام زوجي عبد الله وابني حسن (13 عامًا)، طمأنتني أخواتي أنهم بخير لكن قلبي كان يشعر غير ذلك”.
بعيونٍ دامعةٍ وكلماتٍ مرتجفة، وصفت إسراء فرج الله (34 عامًا) ما حدث لعائلتها فجر يوم 8 ديسمبر 2023، عندما قصفت طائرات الاحتلال الإسرائيلي منزل عائلتها في منطقة المخيم الجديد شمال النصيرات وسط قطاع غزة، حيث استشهد زوجها وآخرين من أفراد العائلة!
تسند إسراء رأسها إلى عمود الخيمة الخشبي، وتغمضُ عيناها بقوّة وهي تستعيد تفاصيل القصف الذي أودى بحياة 8 من أفراد عائلتها بينهم زوجها وطفلها، وأصيب صغيرُها غيث (9) أعوام، بضربة في الجمجمة وكسرٍ في العمودِ الفقري، وما زال يعاني من آلامٍ حتى اليوم بسبب عدم استكمال العلاج.
تتلعثم بينما تستجمع قواها لمواصلة الحديث، تنظرُ باكيةً إلى صورة طفلها الشهيد حسن، وتستعيدُ مشهد فِراقهم وإلقاء نظرة الوداعِ الأخيرة عليهم، فلم تصدّق حينها أن ذاك الجسد الذي يرقد أمامها محترقًا هو لطفلها الجميل حسن.
تقول: “مستحيل أن يكون هذا الجسد المحترق لابني، ملامح وجهه ممسوحة تمامًا، قدماه مكسورتان، عدّلتهم قبل دفنه، ابني كان جميلٌ جدًا وحتى الآن لا أستوعب أنه هو”.
لم تتوقف معاناة إسراء عند هذا الحدّ، بل إن هاجس الفقد لاحقها عندما تركت طفلها غيث (9) أعوام مصابًا وحيدًا في مستشفى شهداء الأقصى، يبكي خائفًا متألمًا.
توضح: “عندما عُدت للمستشفى وجدتُ غيث نائمًا على قطعة كرتون دون رعايةٍ طبيةٍ ودمهُ ينزف، خفتُ أن يموت هو الآخر، بتُّ أجري في المستشفى حافية القدمين بحثًا عن أطباءٍ يسعفوه، قدموا له الرعاية الطبية وتم تقطيب جروح رأسه بـ20 غرزة”.
كان غيث يشعر بالبرد الشديد دون وجود شيء يدفّئه، سوى بعض المحارم الورقية التي خاضت شوطًا طويلًا للبحث عنها، من أجل مسح دمائه وتدفئته، فضلًا عن وقوفها ساعات أمامه كي لا يشعر بالخوف من مشهد المصابين الذين كانوا حوله؛ يعلو صراخهم ألمًا بسبب تقطيب جروحهم دون تخدير نظرًا لشحّ هذه المواد في المستشفى.
ويُعدُّ ما تعرّضت له عائلة فرج الله انتهاك من قبل الاحتلال الإسرائيلي لاتفاقية جنيف الرابعة التي ضمنت الحماية للمدنيين وممتلكاتهم وقت الحرب والنزاع المسلح، كما يتنافى مع نصوص القانون الدولي وخاصة المادة (6) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، والتي تنص على أن الحق في الحياة ملازم لكل إنسان، ولا يجوز حرمانه منه تعسفًا.
فقدت إسراء وصغارها غيث وليث وهند، مصدر الأمان، وبدأت رحلةَ نزوحٍ شاقّة بحثًا عن مكان يأويهم، مكثوا بدايةً في منزل أقارب لهم قرب منزلهم المدمّر، وبعد أسبوعين اضطروا لإخلاء المنطقة بالكامل تمهيدًا لقصف الاحتلال لها، لتخوض مع أطفالها معركة جديدة سيرًا على الأقدام باحثين عن مكانٍ آخر.
النزوح الثاني كان خيمة في منطقة الزوايدة هربًا من القصف وخوفًا من فقدان طفل آخر، لتجلس مع صغارها في خيمة صغيرة دون فراش ولا ملابس تدفئ أجسادهم الغضّة.
مرغمةٌ خرجت إسراء بطفلها غيث من المستشفى إلى الخيمة التي تتكدس داخلها حاجياتهم، لا تصلح لرعاية طفل مصاب لا يستطيع الحركة، ولا تتوفر فيها أدنى مقوّمات الحياة، لتواجه مع صغارها أصنافًا أخرى من المعاناة في الحرب.
في الخيام، تخوض إسراء نزالًا مع الحياة لتوفير متطلبات أطفالها، وحدها معيلة الآن للثلاثة بينهم مصاب.
تقول: “أنا معيلةٌ لثلاثةِ أيتام، أصطفّ على دور مياه الشرب والخبز، وأحيانًا طفلتي هند (11 عامًا) تساعدني في رعاية أخويها، لا أستطيع توفير الحفاظات والحليب لليث البالغ عامين”.
يصحو ليث على الصراخ وين بابا، وين حسن”، أتساءل أين سأذهب بعد انتهاء الحرب، حسن كان دائمًا يستمع للقرآن في البيت وأنا أحافظ على ذلك حتى يتمسك صغاري بعادةِ أخيهم، أقول لهم هيك كان حسن يعمل ورح نعمل مثله”، تختم إسراء.
عبءٌ كبيرٌ ألقي على كاهلِ إسراء، بتوفير المتطلبات اليومية بينما تفتقد لأي مصدر دخل بعد استشهاد زوجها، وفقدان بيتها.